لبنان يمرّ في أصعب مرحلة عبر تاريخه الحديث، والخطر على كيانه تخطَّى حدود الخطوط الحمراء كلها. فتقرير مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت الأخير، عن أن خطر إدراج لبنان في مرتبة الدول الفاشلة بات واقعاً، بعد تراجعه 36 مركزاً على مدى 5 سنوات ليصبح ترتيبه في العام 2021 على مؤشر الدول الفاشلة الذي يصدره الصندوق العالمي من أجل السلام بين الدول الـ34 الأكثر فشلاً من أصل 179 دولة، يعيدنا إلى ما سبق وحذر منه وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لو دريان في آب العام 2020 حين اعتبر أن “الخطر اليوم هو زوال لبنان”.
وفي السياق ذاته، يأتي تقرير الأمم المتحدة، قبل يومين، عن أن نصف اللبنانيين يعيشون في حالة من الفقر فيما الفقر الحاد ارتفع من 8% العام 2019 إلى 23% العام 2020، ومؤشر الاستهلاك ارتفع بين العامين 2019 و2021 بنسبة 280% وأسعار المواد الغذائية ارتفعت 670%، ومليون و88 ألف لبناني بحاجة لدعم مستمر لتأمين احتياجاتهم الأساسية بما فيها الغذاء. بالإضافة إلى تقرير البنك الدولي أواخر أيار الماضي، عن أن الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان تُصنّف ضمن أشد 10 أزمات وربما إحدى أشد 3 أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. وكل هذه التقارير تُجمع في استنتاجاتها على أن الخطر على لبنان بات وجودياً.
مدير مركز المشرق للدراسات الاستراتيجية سامي نادر، يتخوَّف من هذا المسار وما يؤشر إليه من أخطار كبرى. ويرى، في حديث إلى موقع القوات اللبنانية الإلكتروني، أن “أخطر ما يعنيه تقرير مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية عن مرتبة لبنان على مؤشر الدول الفاشلة، فضلاً عن سائر التقارير، هو تفكُّك الدولة”.
ويوضح، أن “هذا التقرير اقتصادي اجتماعي، صحيح، لكن عندما يوضع في إطاره الإقليمي يأخذ معنى آخر، لأنه يؤشر إلى أن لبنان الكبير يمشي في مسار الزوال، إذ لم يبق منه الشيء الكثير. وبدء من السياسة، في الميثاق الوطني والعيش معاً، الفكرة الأساسية في الميثاق والقائمة على الحياد نُسفت، وتكرَّس هذا الأمر وبات منظومة حُكم إذ تم اختطاف لبنان إلى محاور إقليمية بدل العكس”.
“أما بالنسبة للعيش المشترك، فعن أي عيش مشترك نتكلم في ظل الخطاب الطائفي المتأجِّج بين الأطراف، والعصب الطائفي في أوجِّه؟”، يسأل نادر، مضيفاً أن “الأهم، هو أن النسيج الاجتماعي اللبناني يتفكَّك لأنه يفقر ودخل عليه في السنوات العشر الأخيرة كمٌّ هائل من النازحين السوريين. ويتفكَّك بسبب غياب الفرص الاقتصادية والهجرة الكبيرة. وأخيراً، ما تبقى من عمود فقري، أي الدولة المركزية، تتفكَّك، إذ لم يبق لديها مقوّمات البقاء الاقتصادي”.
ويلفت، إلى أن هناك “مؤشرات كثيرة للدلالة على ذلك، منها التسرُّب في الوظيفة العامة بمختلف مؤسسات القطاع العام والإدارات. فهناك العديد من الموظفين الذين لا يداومون سوى يومين أو ثلاثة فقط في الأسبوع، لسبب بسيط، لأنهم لا يملكون ثمن البنزين للانتقال إلى مراكز وظائفهم”.
ويشير نادر، إلى أن “هذا الأمر بدأ بالظهور في المؤسسات العسكرية والأمنية، وهناك محاولات من قبل فرنسا ومصر، وغيرها من البلدان التي لا تزال مهتمة بالاستقرار في لبنان، لمساعدة الجيش اللبناني وباقي الأجهزة على تأمين حصص غذائية وعينية”، لافتاً إلى أن “المؤتمر الدولي الذي يعقد في باريس غداً الخميس في 17 حزيران الحالي، عبر الإنترنت، يأتي في هذا السياق، إذ يتلمَّسون خطورة الوضع الاقتصادي على بقاء مؤسسات الدولة، وما يشكِّله ذلك من خطر على الكيان اللبناني باعتبار الدولة هي العمود الفقري للكيان. وذلك تبعاً لما يشاهدونه من تفكُّك لمختلف مؤسسات وأجهزة الدولة وانهيار سائر الخدمات العامة الصحية والاجتماعية والمعيشية، والقطاعات المختلفة من الكهرباء إلى الاتصالات والمياه والطرق وغيرها”.
ويعتبر نادر، أننا “أمام عملية تحوُّل كبيرة. فالمسألة ليست فقط دولة فاشلة يمكن إعادة تعويمها في ظروف موضوعية مختلفة، إنما الخوف من أن يكون الأمر أبعد من ذلك وتمهيداً لشيء آخر. بمعنى دولة فاشلة في تأمين وظائفها الأساسية، فيأتي من يحلّ محلها. أما من وما الذي سيحلّ محلّ الدولة في هذه الحالة، أقِوى أمر واقع أم إعادة ترتيب لهذه المساحة الجغرافية وتوزيعها على القوى في الإقليم كما هو الحال في سوريا؟ هنا السؤال”، لافتاً إلى أن “التدخل الروسي أنقذ ثلث سوريا، أما الثلثين الباقيين فهما في غير فضاء سياسي”.
ويضيف، “هناك خشية من أن يكون لبنان دخل في مسار مشابه، لأن لا قابلية دولية اليوم لمواجهة المشروع الآخر. فمشروع حزب الله عامل مساعد ومزخِّم لعملية التفكُّك الحاصلة، لأنه ينمو على حساب الدولة، ويعزل لبنان عملياً عن المجتمع الدولي لأنه يسدّ الطريق أمام المساعدات الدولية، إذ لا يمكن إعادة إنهاض الاقتصاد وبالتالي نهوض الدولة خارج اتفاق على برنامج مع صندوق النقد الدولي، وهذا الأمر ليس على الطاولة اليوم، بل حتى تشكيل الحكومة المطلوبة التي تعتبر أولى خطوات محاولة النهوض ليست في الأفق”.
ويرى الخبير الاستراتيجي ذاته، أنه على “ضوء هذه المعطيات، نتجه إلى أكثر من دولة فاشلة، إلى عملية تفكُّك أوصال الدولة وغياب وانتهاء لبنان الكبير، مع الأسف. وكلّما طالت فترة المكوث في مصاف الدولة الفاشلة وطال الخروج من هذه الوضعية كلّما تفكَّك المجتمع أكثر”.
ويحذّر نادر، من أن “الهجرة على أوسع نطاق، والخطير أنها لم تعد ظاهرة على مستوى الشباب فقط بل على صعيد العائلات. فمن خرج مثلاً إلى التقاعد ومدّخرات عمره محجوزة في المصرف، يلجأ إلى الهجرة مع عائلته إلى بلدان مثل فرنسا وكندا وغيرها، ليأوي عائلته ويؤمِّن مستقبلها، بل لكي يجد من يهتم به ويرعاه في آخرته بعدما فقد الأمل”.