في المبدأ وبشكل مبسَّط، وجود حكومة مكتملة المواصفات الدستورية في أي بلد، حتى ولو شكلاً، أفضل من عدم وجود حكومة، أو حكومة مبتورة أو في حالة تصريف الأعمال. لكن، وبشكل مركَّب، لطالما تعوَّد لبنان، أو “عوَّده” البعض غصباً عنه، على عدم تطابق المبدأ والأصول الدستورية المستقيمة والمنطق السليم مع الواقع النقيض لكل هذه.
حسناً، بات لدينا حكومة بعد مخاض استمر 13 شهراً من المناكفات والمحاصصات والتركيبات، وعقدت اجتماعها الأول، أمس الإثنين، وشكَّلت لجنة لصياغة البيان الوزاري انعقدت عند الواحدة بعد الظهر. وتولَّى كل من رئيسَي الجمهورية ميشال عون والحكومة نجيب ميقاتي، في مستهل الجلسة الحكومية الأولى، إلقاء الكلمات التقليدية المحمَّلة بالأمنيات والوعود، من دون أن يغيب عنها استدرار عطف وتعاطف اللبنانيين والخارج بـ”تلوينات” كلامية معهودة ومتوقعة.
لكن، يحتاج اللبنانيون إلى أكثر من الكلمات ليمنحوا ثقتهم لحكومة يرون أنه من الصعب أن تختلف عن سابقاتها، طالما أنها نتاج الأكثرية الحاكمة ذاتها التي أنزلت بهم هذا البؤس الذي يعيشونه، على الرغم من نوايا بعض أشخاصها الطيبة ورغبتهم بالإنجاز، خصوصاً رئيسها، الذي يعترف وهو يوجِّه وزراءه، بأن “الناس تتطلع إلى الأفعال ولم يعد يهمها الكلام والوعود، واعداً بالانكباب على معالجة ملفَي المحروقات والدواء بما يوقف إذلال الناس”.
فهل يمكن لحكومة ميقاتي أن تصنع “الأعاجيب” وتحقق في فترة قياسية الإصلاحات الإنقاذية المطلوبة، وتعيد عوامل الثقة، داخلياً وخارجياً، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتدفق الدولارات إلى البلد، واسترجاع ثقة المواطن اللبناني بالدولة والقطاع المصرفي، فيعيد ضخ الدولارات المنزلية المقدَّرة ما بين 5 و10 مليار دولار، لكي تستعيد الدورة الاقتصادية حركتها المعتادة؟ وهل يمكنها أن تستعيد ثقة المصدّرين وأن تقدِّم الضمانات الأكيدة والمطمئنة لهم لإعادة ضخ دولارات صادراتهم في القطاع المصرفي، وضمان حرية تنقل هذه الأموال بدل الاحتفاظ بها في المصارف الخارجية؟
الخبير الاقتصادي والمالي إيلي يشوعي، يعرب عن عدم تفاؤله بإنجازات يمكن أن تحققها الحكومة. ويشير، في حديث إلى موقع القوات اللبنانية الإلكتروني، إلى أن “عامل الثقة هو الأساس، ولا أعتقد أن الوجوه التي تشكَّلت منها الحكومة توحي فعلاً بالثقة للداخل اللبناني. فعلامَ ستوحي بالثقة وهي مجهولة وغير معروفة؟”.
ويضيف، “هؤلاء موظفون في غالبيتهم، ويجب التمييز دائماً بين العمل الإداري والعمل السياسي. فالوزير يجب أن يكون سياسياً، فلا نأتي بموظف ونقول له عليك أن تبدأ بالعمل السياسي بين ليلة وضحاها”، لافتاً إلى أن “عقلية الموظف تختلف عن عقلية السياسي، إذ هو يتلقى أوامر وتعليمات وتوجيهات وليس صاحب قرار. ومع الأسف، لا أحد من هؤلاء الوزراء سيد نفسه”.
ويرى، أن “هذه الحكومة هي حكومة أحزاب تم اختبارها على مدى أكثر من 25 عاماً”، معتبراً أنه “لا يجوز كل مرة أن نذهب باتجاه تشكيل حكومة الجميع، فلا شيء في النظام الديمقراطي اسمه جمع الكل على طاولة واحدة فنصبح رهينة الخلافات، لأن الأحزاب التي تسمي الوزراء لديها توجهات متباينة، وسياساتها الداخلية وحتى الخارجية فيها تباينات أساسية وجوهرية”.
وبرأي يشوعي، أنه “لا يمكن وضع ممثلين عن الأحزاب، أو موظفين لديهم، على الطاولة، ومن ثم نأمل بفاعلية وانتاجية من قبل السلطة التنفيذية التي تتشكل منذ 25 عاماً على هذا النحو. فلم يكن هناك في لبنان طوال السنوات السابقة أكثرية تحكم وأقلية تعارض، وإذا ربحت الانتخابات تطبِّق برامجها التي ترفعها. هذه قواعد اللعبة الديمقراطية، ولا أرى أن لبنان لا يزال بلداً برلمانياً ديمقراطياً”.
ويلفت، إلى أننا “بدأنا بتشكيل حكومة مهمة مستقلة تقرّ الإصلاحات وتواجه الفساد وتستعيد حقوق اللبنانيين المهدورة، مع مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وتكليف السفير مصطفى أديب. واستهولت الطبقة الحاكمة الأمر بداية وراحت تفتش وتتصل بشخصيات كفوءة نظيفة وأصحاب رأي وموقف وسيرة ومسيرة حسنة”.
ويضيف، “لكن الطبقة الحاكمة لن تسلِّم بسهولة طبعاً، فراحت تختبر مدى جدية ماكرون في حال عرقلة التشكيل، وتبيَّن لها أن المسألة بقيت في إطار التنبيه والتحذير، لكن لم يتم التلويح بعقوبات جدية فعلاً منذ البداية تنفَّذ فوراً إذا لم تتشكل حكومة مهمة إنقاذية من أكفاء. وهذا ما جعل المعنيين بالتشكيل يرتاحون، وانتهينا باعتذار أديب وتنفسُّوا الصعداء”.
ويشير يشوعي، إلى أنه “في أولى مراحل تكليف الرئيس سعد الحريري كانت مسألة المحاصصة بين الأحزاب مبطَّنة نوعاً ما، قبل أن تصبح علنية وجهاراً. ووصلنا إلى مرحلة أصبح الفرنسيون يريدون تشكيل أي حكومة، وصار نجاح أو فشل ماكرون مرتبطاً بتشكيل حكومة في لبنان ولم نعد نطرح تشكيل حكومة مهمة مستقلة”.
ويلفت، إلى أن “الأمر لم ينجح مع الحريري تبعاً للملفات الداخلية العالقة وشد الحبال بينه وبين عون وفريقه، فوصلنا إلى تكليف ميقاتي الذي اعتبرتُ منذ اللحظة الأولى أنه سيفعل المستحيل ليشكِّل الحكومة ويكون رئيساً لمجلس الوزراء، كما حصل”.
وبرأي يشوعي، أن “المجتمع الدولي لن يعطي ثقته لهذه الحكومة. فهل سيقوم وزير المالية مثلاً بتدقيق مالي جنائي على نفسه وعلى رئيسه؟ وما علاقة وزير الاقتصاد، المحامي، بالاقتصاد؟ وقِس على ذلك”.
ويرى، أنه في حال تمكنوا من الدخول في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، يذهبون من موقف ضعف وفارغين إذ لا شيء في أيديهم. ولسان حالهم للصندوق، بأمرك، أطلب ما تشاء لكن “شحِّدنا قرشين”، ورئيس الحكومة نفسه قال “نحنا مْنَشفين”.
“بالتالي، لا ثقة، لا من الداخل ولا من الخارج بهكذا حكومة”، وفق يشوعي، الذي يؤكد أن “العملية كلها تمرير وتقطيع للوقت ربما إلى موعد الانتخابات النيابية”، معتبراً أنه “في حال لم يكن هناك إشراف جدي من قبل الأمم المتحدة على هذه الانتخابات، على كل صندوق اقتراع وإلى آخر لحظة من عمليات الفرز، لأننا تعوَّدنا على قطع الكهرباء في اللحظات الأخيرة لإبدال الصناديق، فسيكون مجلس النواب المقبل نسخة طبق الأصل عن الحالي”.
أي عملية نسخ من دون ذكر المصدر تعرض صاحبها للملاحقة القانونية