بقلم الأباتي بولس نعمان – “المسيرة” – العدد 1720
إحدى مزايا مجلّة المسيرة، التي أقدّر وأحترم، هي الوفاء والثّبات على الموقف والمبدأ.
وبإسم هاتين الصّفتين تَطْلبُ منّي المسيرة اليوم أن أكتب عن الرّئيس بشير الجميّل في مناسبة ذكرى انتخابه رئيسًا للجمهوريّة اللبنانيّة.
ولأنّي مُستَغرق في هذه الأيام في تجميع الأوراق القديمة وتفريغ المفكّرات، أحببت أن أستعيد ببساطة كليّة بعض الذّكريات عن الشّيخ بشير الجميّل رجل الدولة المثالي، كيف تعرّفتُ إليه وإلى بعض صفات رجل الدولة دونما إدعاء تقديم دراسة وافية عن صفاته وعن كل القدرات التي يتمتع بها في هذا المجال وعما كان بإمكانه أن يحققه للبنان على مستوى بناء الدولة الضامنة لحقوق جميع مواطنيها لو لم تطله يد الغدر قبل 32 عاماً.
الصورة الأولى التي ارتسَمت في ذهني عن بشير كانت صورة رجل الدولة المسؤول والقوي والصادق الذي يستطيع أن يتخطَّى المصلحة الحزبيّة الضيّقة، وحتّى بعض المصالح الخاصّة، من أجل الوصول إلى الخير العامّ والوطن المثال.
هذه الصورة انطبعت في ذهني في بداية الأحداث سنة 1976-1975 على أثر أزمة المحروقات الحادّة التي نشبت بعد قطع الطرقات وتَوَقُّفْ الضّخ عن مصفاة طرابلس وبعدها عن مصفاة الزهراني. خلال هذه الأزمة بدأ تجَّار المحروقات في المنطقة الشّرقيّة أو «لجنة المحروقات» آنذاك باستغلال الأزمة:
رفعوا سعر العشرين ليتر إلى ستّين ليرة لبنانيّة دفعة واحدة، ثمّ، بدأوا يخلطون البنزين بالإتير… عندها قامت حملة منظَّمة ضدَّهم وكنت أحد المشاركين فيها وقد تجمّعوا تحت إسم «المتمرّدون». وكانوا ينشرون مقالاتهم في نشرة «اللبناني» في المتن الشمالي التي كان يشرف عليها الأستاذ فارس الحاج.
فجأة ارتدَّت علينا التّهمة ببيان نُشِر في الجرائد بإسم «لجنة المحروقات»، طالتني شخصيًّا أنا والمؤتمر الدائم للرهبانيّات اللبنانيّة، مع أنّنا كنَّا غرباء كليًّا عن الموضوع وما تعاطينا مطلقًا لا في تجارة المحروقات ولا في غيرها.
مباشرةً بعد «البيان» فوجئنا «ببيان» ناري من الشّيخ بشير يسمّي الأشياء بأسمائها ويشهِّر بلجنة المحروقات ويدافع عنَّا وعنِّي شخصيًّا بكلّ قوّة، ولم أكن قد تعرّفت إليه إلاّ بالفكر والرّوح الوطنيّة والغيرة على مصلحة المواطن.
وفي اليوم التّالي، ولأوّل مرّة، زارني الشّيخ بشير في الكسليك وأخبرني أنّه أنزل سعر العشرين ليتر إلى عشرين ليرة لبنانيّة، وأنّه يحرص مثلنا على مصلحة المواطنين ويرغب في التّعامل معنا.
هذا الحدث وتلك الأفكار، التي تبادلناها خلال هذه الزيارة، جعلاني أرى فيه رجل الدولة لا بل رجل لبنان المستقبل، لبنان السيّد الحر المستقلّ عن الشّرق والغرب.
هذه الصورة، صورة رجل الدولة ورجل المستقبل، لم تتغيَّر من أوّل يوم تعرّفت إلى هذا الوجه المشرق، لا بل تطوّرت وتبلورت وزادت إشراقًا في مختلف الحقول السّياسية والإجتماعيّة والإنسانيّة، حتّى انتخابه رئيسًا للجمهوريّة، وحتّى غيابه المفجع بعد واحد وعشرين يومًا من رئاسته المتألّقة. ومع الأيّام القليلة التي عاشها بعد الرّئاسة، تحوّلت هذه الصورة إلى قناعة بأنّ بشيرًا هو من القلائل الذين يطمحون للرئاسة عن جدارة واستحقاق وأنّ باستطاعته أن يحقّق حلم الأجيال الشّابة ويبني وطنًا يفخر فيه إنسان هذا الشّرق المعذَّب.
صحيح أنّه كان يتمتّع بصفات رجل الدولة، ولكن الأصح أنّه كان يعرف أن يوقِّت ساعة إبراز هذه الصّفات: الفهم السّريع والجرأة، الصّراحة والشّفافيّة، العناد في الحقّ ومعرفة أخذ القرار وسرعة التّنفيذ… كلّ هذه كان من الممكن أن تكون صفات، كما كان من الممكن أن تظهر، بعض الأحيان، وكأنّها ليست بصفات حقيقيّة، ولكن المهمّ أنّه كان يعرف أيَّ ساعة يستعملها وفي أيّة ظروف يبرزها لتكون صفاتٍ بالفعل والحقيقة. إنّ توقيت استعمال الصّفات كانت الصّفة الأهم عنده.
يُحِبُّ الإصغاء ويَستمع إليك بانتباه، يمعن في التبصّر والإصغاء حتّى يَتَمَثَّل الفكرة، فيتبنّاها ويبلورها بقالبه الخاصّ حتّى تبان وكأنّها فكرته هو، كلمته هو؛ وإذا أخطأ، لم يكن يجد أيّة صعوبة في الإقرار بالخطأ والنّدم عليه، ولمَّا حصلت جريمة إهدن، التي هدمت البيت المسيحي، كنت آنذاك في ألمانيا، ولمّا رجعت وجَّهت له كلامًا قاسيًا جدًّا، إلتَفتَ إليَّ نادمًا وقال لم يكن هذا قصدنا، أرجوك أن تفتديه حتّى بشخصي… لكن التّاريخ، حتّى مع النّدم، لا يَرجِعُ إلى الوراء.
كانت المعاملة معه صعبة وصعبة جدًّا بعض الأحيان، لذا كانت علاقتنا تمرّ بأزمات فننقطع عن الكلام أشهرًا، حتّى على طاولة الجبهة اللبنانيّة، وكنَّا نجلس متقابلين. مرّة في شهر آذار سنة 1981 لمَّا تأزّمت الحال بين الرئيس سركيس وسوريا، وبين الكتائب وسوريا، على أثر قصف مدينة زحلة الوحشي، أوحى إليَّ صديقي الأستاذ هاني سلام، بعد أن اجتمع مع الوزير عبد الحليم خدّام، بأنّ زيارتي لسوريا من الممكن أن تُنْهي القطيعة، فاتحت الرئيس سركيس ومجلس مشورته بالأمر، وكان مؤلّفًا من الوزراء فؤاد بطرس وميشال إدّه وربّما السيد جوني عبدو وغيره من المقرّبين فقبل الرئيس سركيس، مع بَسمةِ شكٍّ وشيء من الإستبساط. ولمّا فاتحت الشّيخ بشير أسرع إلى الإجتماع معي في الكسليك فوضعنا سويّةً نقاط البحث والحوار، ولمَّا انتهينا من كتابتها، وقد كَتَبَها هو بخطّ يده بالفرنسيّة، طلبت منه أن يكتب ورقة أخرى منفردة، يتعهَّد فيها بأنّ الزيارة حصلت بمعرفته التّامّة، وأنّه يتحمّل هو أيضًا نتائج هذه المهمّة، ويقبل بنتيجة الحوار. وقلت له أنا مسؤول في رهبنة عريقة لها تاريخ مجيد وفيها قديسين، فليس من حقّي أن أحْمِل هذه المسؤوليّة لوحدي. استصعب الأمر وتردَّد طويلاً ثمّ استنجد بالأباتي بطرس قزّي… أخيرًا إلتَفَتَ إليّ محدِّقًا وكأنّه يقول بعتب «وَلَوْ بتشك فيِّ؟!» أجبته، لا أشكّ فيك مطلقًا، ولكنّي مسؤول وعليَّ أن أكون أمينًا وحذرًا من مقالب السياسة والسياسيين، فإذا أَخفقتُ لا أريد أن تتحمَّل رهبنتي وزر أخطائي، وإذا أفلحتُ فمبروك عليك النّجاح، ابتسًم طويلاً ثمّ كتب التعهّد على ورقة صغيرة ووقّعها، ولا تزال الأوراق معي وهي لديَّ من أثمن التذكارات.
ولمّا رجعت من الشّام، وقد تمَّ الإتّفاق على أن يأتي عبد الحليم خدّام إلى بيروت ويستأنف الحوار مع الدولة ومع الشّيخ بشير، بَدَأَتْ الوشايات تُحاك ضدّ بشير، وبعد الزيارة الثّانية لعبد الحليم خدّام لبيروت، دعاني الرئيس سركيس إلى العشاء معهم، وكان الحوار قد بدأ يُثمر، فجأة غيَّر الوزير السوري موقفه وطلب من بشير أن يصدر بيانًا ينهي فيه علاقته مع إسرائيل، وهذا الشّرط لم يرد مطلقًا في محادثاتي مع الوزير السّوري في دمشق، ولم يذكر لي الوزير خدّام، ولو مرَّة واحدة، إسم إسرائيل خلال السّت ساعات من الحوار والنقاش بحضور السيّد هاني سلام. بعدها اتّصل بي الشّيخ بشير واستفسر عن بعض التفاصيل واحتدم الجدال بيننا عندما إتَّهم هاني سلام بأنّه هو الذي حمل رسالة النّقض من مرجع لبناني إلى سوريا، عندئذٍ انقطع الإتّصال كليًّا بيننا ودام أكثر من شهر، وبعد شهر تقريبًا، رنّ جرس الهاتف في مكتبي في حريصا، وسمعت بشيرًا يقول لي «بَرخْ مور» أي «بارك يا سيّد»، وهي تحيّتنا الرهبانيّة المعتادة، فأجتبه أهلاً كيفك يا شيخ، الحمد لله على السلامة، فقال «وَلَوْ هَيْئتَكْ قابضها عن جدّ وزعلان»، ثمّ أردف وقال «بتعْلُف» يعني بتعشيني فقلت أهلاً وسهلاً وكان عشاؤه المفضَّل لبنة وبندورة وزيتون وبعض الفواكه… وبعد نصف ساعة وصل إلى الدير في حريصا، وبعد المصافحة والمعاتبة قلت له: أنت متأكّد أنّ هاني سلام هو الذي حمل رسالة النّقض من لبنان إلى سوريا. فقال ظننت ذلك في البدء، وقد غضبت لأنّ هذه الرسالة عطَّلت كلّ المساعي بما فيها مساعيك ومساعيّ، ولكنّي الآن أنا متأكّد أنّ الذي أبلغ الرسالة لعبد الحليم خدّام هو شخص آخر، قلت له «شو بيعمل اللي بيغلَّط» قال «اعطيني نمرة تلفون هاني بلندن» وحالاً اتّصل به واعتذر منه وعزمه للرجوع إلى لبنان، لأنّ هاني كان قد رجع إلى لندن عندما عرف أنّ بشيرًا غاضب.
رحم الله بشيرًا كم كان كبيرًا وكم علينا اليوم أن نصلّي حتّى يرسل لنا الله قادة أبطالاً ورجال دولة من طينة ومعدن بشير الجميّل.
من أرشيف المسيرة
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]