كتبت جومانا نصر في “المسيرة” – العدد 1721
لبنان الكبير تجربة مستحيلة
لبنان الأكبر حرًا سيدًا في صناديق إقتراع 2022
في احتفال إعلان دولة لبنان الكبير في قصر الصنوبر عام 1920 كتب الجنرال غورو وصية جاء فيها: «إن لبنان الكبير تألّف لفائدة الجميع ولم يؤلَف ليكون ضدّ أحد». وتوجه إلى اللبنانيين قائلا: «الإتحاد مصدر قوتكم. فحذار من الخصومات العرقية والمذهبية». وصية غورو بقيت حبراً على ورق. فهذا «اللبنان الكبير» تحوّل من ساحة حوار وتلاق إلى دولة فقيرة معزولة مارقة، وبات أقرب إلى دولة متسوّلة على رصيف المجتمع الدولي ينتظر دوره للحصول على مساعدات تنقذ ما تبقّى من مقوّمات لبنان الكبير. فهل ثمة من يقف ويضرب بعصاه لاستعادة كيان هذا «اللبنان» الذي تحوّل إلى دولة مارقة ومهاجرة ومتسوّلة؟ ماذا فعلنا بلبنان الكبير وماذا بقي منه بعدما انتقل الحكم من أيدي رجال دولة إلى دويلة يحكمها حزب بسلاحه؟ وهل أصبح لبنان الكبير ذكرى وتاريخاً أم أنه واقع وتحدٍ ومسؤولية لا بدّ من الحفاظ عليه وتسليمه «أكبر» إلى الأجيال المقبلة؟
باعتراف القاصي والداني، الحلفاء والممانعون «لبنان ليس بألف خير». وهو معرّض للمزيد من المخاطر الوجودية في ظل الضغوطات المفروضة عليه. لكنها لا تشكّل سابقة في تاريخه منذ قيام لبنان الكبير. ففي العام 1975 كان مطروحًا تحويل لبنان إلى دولة بديلة للفلسطينيين، وقد تجاوزناها بفعل مقاومة أبنائه. ولاحقاً كانت هناك محاولات لأن يكون «محافظة سورية».. أيضا تجاوزناها. اليوم هناك الإحتلال الإيراني الذي يعرّض كيان لبنان لمخاطر وجودية وسيواجه بمقاومة وجودية لتجاوزه. فماذا بقي من هذا اللبنان الكبير؟
الكاتب السياسي فايز قزي أكد في حديث لـ»المسيرة» أن «لبنان الكبير كان مجرد محاولة لا بل مغامرة كبيرة اخترعها العقل اللبناني من خلال الجمع بين عناصر مختلفة ومتناقضة ومتخاصمة أحياناً. وظنّوا أنه من خلال الجمع بين «السلبيات» يمكن صنع تجربة وطنية. لكن تبيّن مع الزمن أنها كانت تجربة فاشلة على رغم كل التسمييات التي مرت بها بدءاً من القائمقاميتين ثم إمارة ثم متصرفية وصولاً إلى دولة لبنان الكبير ونيل الإستقلال.. وغالبا ما كانت تسقط في الإستحالة».
فشل تجربة جمع التناقضات لم تقتصر على لبنان إنما انسحبت على دول المحيط لكنها حفرت في عمق الكيان اللبناني لأسباب يشرحها قزي بالتالي: «أنا المسيحي الماروني اللبناني عرّيت هذه التجربة وتعرّيت منها وقلت إنها مستحيلة، علمًا أنني حاولت أن أعطيها تجربة العيش المشترك. لكننا للأسف فشلنا. وللفشل أسبابه».
أخطاء كبيرة أدت إلى سقوط تجربة لبنان الكبير منها الإستعمار والأطماع والرذالات «لكن هناك عطب كياني أساسي»؟ ويضيف قزي: «لا يمكن أن نبني مجتمعات ووطناً كبيرًا قبل أن نتخلى عن عصبياتنا الفردية. والثابت أننا كلبنانيين لم نخرج إلى مستوى القبيلة والعائلة والمدينة التي عُرفت في العهد الفينيقي ولم تعد موجودة في معناها الحقيقي، وبقينا في البيئة الفردية فسقطت التجربة قبل أن تنضج على أمها». ولفت إلى أن «عملية بناء نظام كامل ومتكامل ومؤسسات يبدأ من الركائز أي الفرد والعائلة ولاحقاً المدينة والوطن. وعلى نقيض المثل القائل بأن عملية شطف الدرج تبدأ من فوق وصولاً إلى الأسفل، إلا أن عملية بناء الأوطان تبدأ من الأسفل أي من الشعب، وليس الأفراد. في الماضي تجرّأنا وقلنا شعب يضم الطوائف المسيحية والإسلامية والدروز وهذه أيضاً كذبة. نحن مجموعات، والعقلأيتحكم بناالعقل الفردي هو الأساس الذي يتحكم بعقول القادة والمسؤولين السياسيين فيتصرفون وفق ما تمليه عليهم أنانيتهم الذاتية. وعليه أعترف بأن لبنان الكبير انتهى ولم يبق منه شيء إلا العنوان… تجربة مستحيلة».
ماذا يريد «حزب الله» من لبنان
في إحدى عظاته أطلق البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي تحذيرات من مغبة المساس بالنظام الديمقراطي اللبناني، مبنية على جملة مؤشرات وقال: «ربما هناك نية لإسقاط لبنان بعد 100 سنة من تكوينه دولة مستقلة وظناً منهم أنهم أحرار في إعادة تأسيسه من جديد متناسين أنه أبهى أمة وأجمل دولة عرفها الشرق الأوسط والعالم العربي… يريدون تغيير نظام لبنان الديمقراطي وتزوير هويته، لكن لن نسمح لهذا المخطط بأن يكتمل ولن نقف متفرّجين أمام مشهد سقوط أمتنا العظيمة، ولن نسمح باستمرار توريطه بصراعات المنطقة».
ذاك الأحد قالها البطريرك الراعي «لن نسمح بتغيير النظام وهوية لبنان»، في إشارة إلى رغبة كل من «حزب الله» و»التيار الوطني الحر»، الذهاب في سيناريو عقد مؤتمر تأسيسي، وبرفض البعض اليوم وبينهم «حزب الله» السير في انتخابات نيابية مبكرة الذي يطرحه حزب «القوات اللبنانية» كحل للخروج بالبلاد من الأزمة التي تعصف بها. فهل ينجح الممانعون في تغيير هوية لبنان من خلال إحداث فجوات في نظامه الديمقراطي الحر؟
يختلف قزي مع رافعي شعار تغيير النظام أو تعديله ويقول: «النظام ليس في خطر لأنو ما في نظام في ظل الإحتلال. والأزمة لا تتعلق بتغييرالنظام إنما ببناء لبنان على ركائز وطنية أي أن يكون حرًا وغير محتل. وعبثاً نتكلم عن نظام أو دولة الحرية والديمقراطية والعدالة قبل إزالة الإحتلال الإيراني. حتى الخلافات القائمة على الحقائب وفق التوزيع الطائفي لا تنفع طالما هناك محتل وحزب يهدد سيادة الوطن بالسلاح وبيده قرار الحرب والسلم».
ويعود قزي إلى مذكرات الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران التي جمعها في كتاب بعنوان «MemoiresInterrompues» ومما جاء فيها: «في حال وجود سلاح داخل الدولة خارج يد القوى الأمنية والجيش، فهو إما سلاح معدّ للثورة على الدولة والتحضير للإنقلاب على النظام، أو سلاح إحتلال. في لبنان ثمة سلاح وصواريخ لدى «حزب الله»، وهو حتمًا ليس معدًا للثورة وتغيير النظام، إنما هو سلاح إحتلال سياسي. من هنا عبثاً نسأل عن النظام فنحن نعيش في غابة تنفث فسادًا واحتلالاً ونتكلم عن نظام… معادلة قيصرية!».
نسأل عن خارطة إعادة ترتيب أوراق النظام ويجيب قزي: «المطلوب أولاً إزالة الإحتلال ورفعه عن هامة سيادة لبنان. وأي كلام أو طرح خارج هذه المعادلة هو تلهٍّ ومساهمة في استمراره. اليوم لا يوجد وطن إسمه لبنان، هناك قوة تمسك بزمام حدوده وأمنه ومؤسساته وإقتصاده بالترهيب حيناً والسلاح حيناً آخر.. إنها قوة «حزب الله». نعم نحن في حالة إحتلال كاملة وناضجة وفعلية ولسنا في حال ربط نزاع كما يصفها البعض أو حالة واقعية. ثم كيف يمكن ربط إحتلال مع دولة؟… علينا أن نرفع الصوت عاليًا ونعلنها صرخة ضد الإحتلال الإيراني وسلاح «حزب الله»، وضد المقاومة التي ليست إسلامية ولا شيعية، إنما تشيع الصفويين الذين استغلوا بعض الأئمة وأطلقوا على أنفسهم صفة «المقاومة».
الجمهورية والدولة واجهة للإحتلال
في كتابه «حارس قبر الجمهورية» أطلق قزي الصوت وأجرى مرافعة ضد الإحتلال الإيراني وأذرعه بحسب توصيفه ويقول: «حتى رئيس الجمهورية تحوّل إلى حارس في جمهورية سقطت فيها كل المؤسسات العسكرية والإقتصادية والتربوية والصحية والسياحية وحتى نظامها المدني». والسؤال الذي يطرح ماذا بقي من لبنان الكبير؟
منذ 100 عام ونحن نعيش في وطن نازف إسمه لبنان. 100 عام ونحن نحاول أن نخيّط أجنحة المجموعات التي كان يفترض أن يعمّر عليها لبنان الكبير لكن تبيّن اليوم أن «الخيط» لا يبني وطناً. اليوم نحن في ولاية إيرانية غير معلنة ليس لأنهم يخشون إعلانها أو لا يريدون ذلك، خصوصًا أن لديهم كل المقتضيات لتحقيق ذلك، إنما لأنهم بحاجة إلى واجهة الجمهورية والدولة». ولفت إلى أن «الإحتلال الإيراني قد يكون من أكثر الإحتلالات التي مرت على لبنان خطورة لأنهم من عرقنا وديننا وقد يكون إحتلالاً أبديًا ودائمًا إلا إذا قررنا كشعب لبناني وليس كشعوب الخروج من مرحلة مرض الموت ومقاومة الإحتلال لأن التجارب والمحطات السابقة أثبتت أن العالم لا يحمل هم هذا الوطن طالما هناك شعب يرفض أن يقاوم المحتل ويطرده من أرضه».
من لبنان الكبير إلى المثالثة… ماذا عن الكيان؟
ورد في الوثيقة التأسيسية أو ما عرف بـ وثيقة المستضعفين التي أصدرها «حزب الله» بتاريخ 19 شباط 1985 «لا نريد بناء دولة ولا أمة ولا حزباً بل جزءاً من أمة نصرالله طليعتها في إيران». كلام خطير يقول قزي لأنه يمس الكيان اللبناني. ويستند في كلامه على تعريف مفهوم كل من النظام والكيان «النظام هو المؤسسات والكيان هو أرض الوطن. ولا يصلح كيان الوطن بتعدد الأنظمة. من هنا ضرورة التوافق على نظام واحد في هذا الكيان حتى لا يضمحل ويصبح أرضاً محتلة وساحة لا وطن».
الأمل أكبر من السجانين
على حبل المعجزات تتعلق آمال اللبنانيين اليوم، ليس لأننا شعب عاش على أمجاد لبنان الكبير، واستسلم لفكرة الهجرة على وقع منظومة «الإحتلالات»، وقد لا تكون آخرها. فهذا «اللبنان» أكبر من أن تُطوى صفحات تاريخه على واقعة «إحتلال إيراني» بعدما كتب حروفاً من الحرية على صخور نهر الكلب ودفع ثمن تحرير الأرض من إحتلالات عبرت دماً وشهداء ومعتقلين. قد يكون لبنان الكبير تجربة مستحيلة، لكنه أكبر من أن يصبح دولة مارقة. والرهان كل الرهان على الأصوات التي ستعلو مطالبة بإزالة الإحتلال الإيراني، وأيضًا على الأوراق التي ستسقط في صناديق إقتراع انتخابات 2022 لولادة لبنان الأكبر نحو جمهورية العدالة والمؤسسات واللافساد.
كتاب “حارس قبر الجمهورية” الصادر – عن دار سائر المشرق
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]