لطالما سمعتُ جدتي تقول، “منقلي بيضة ومنلف قبعة زعتر وزيت، ما منموت من الجوع”. رحمها الله، ودّعتنا منذ ثلاث سنوات قبل أن تشهد على مآثر عصرنا اللبناني الحالي وأهواله.
صدمة أسعار السوبرماركت تتوالى فصولاً، من المؤكد أن اللبنانيين باتوا يحتاجون الى معالجين نفسيين يتابعونهم من هول الفاجعة. بعد انتظار طويل، تنفس الأهل الصعداء وراحوا يعدون العدة والأفكار للعودة المدرسية أقله في المؤسسات التربوية الخاصة، بعد انقطاع دام لعامين. لم تكفهم تعرفة الأقساط التي ارتفعت في حدها الأدنى 30 بالمئة عما كانت عليه سابقاً، ولا تسعيرة الأوتوكار التي باتت “مليونية” بثقة، حتى بدأ البحث عن مشوار “الزوادة” اليومية يؤرقهم.
المشهد مبك لكنه صادق، ويعبّر ربما عن السواد الأعظم. سيدة أنيقة تجول في إحدى السوبرماركات المعروفة، تُحضر في سلتها ما ستزوّد به أولادها في المدرسة. بعض الأغراض العادية جداً، لا أصناف “متفلسفة” ولا ماركات عالمية. فقط ما هو ضروري: لبنة، وجبنة، ومارتديلا، وتفاح وموز. “220 ألف مدام”. خُيّل للسيدة أن موظف الصندوق يتكلم مع زبونة أخرى، نظرت يميناً وشمالاً، فتنبهت الى أنها المعنية… تمتمت بقرفٍ كلمات لم أسمعها، دفعت فاتورتها بغضب وخرجت كالمجنونة.
في لعبة الأرقام، يبلغ ثمن نصف كيلو اللبنة 35 ألف ليرة، ونصف كيلو الجبنة البيضاء 70 ألفاً. نصف كيلو القشقوان 80 ألفاً ووقية المارتديلا 35 ألفاً.
كرتونة البيض التي تحدثت عنها جدتي بـ72 ألفاً، أما الزعتر وزيت فهنا الطامة الكبرى. كيلو الزعتر الأخضر أقله بـ130 ألف ليرة، إذا أضيف إليه كيلو سمسم بـ100 ألف ليرة (على الطريقة اللبنانية)، يصبح أغلى من المارتديلا والجبنة. لحظة، أين السماق الذي يباع الكيلو فيه بـ130 ألف ليرة وصفيحة زيت الزيتون التي تجاوزت المليون وخمسمئة ألف؟ يا لطيف، كيلو الزعتر صار يكلف حوالي المليون ليرة، ما يعادل بكل بساطة زودة الـ30% من الأقساط في عدد لا بأس به من المدارس!
“تروما” الأرقام لم تتوقف عند هذا الحد، كيلو التفاح بـ7 آلاف ليرة، والموز بـ17 ألفاً. البندورة التي غالباً ما نأكلها مع “لفة” الزعتر بـ17 ألفاً. (وهنا لا بد من التذكير أن الأسعار ترتفع بين سوبرماكت وآخر). أيها الأولاد انسوا فوائد العنب، لأن السكر فيه زائد كما سعره، الذي يلامس الـ23 ألفاً، أما علبة الفريز فخطت بثقة نحو العشرين ألفاً.
هذه زوّادة مدرسية صحية وعادية، غاب عنها الشوكولا والبسكويت أو ما بات من رفاهيات المأكولات، لكن الأكيد أن عائلة فيها ثلاثة طلاب تحتاج أسبوعياً الى أكثر من 300 ألف ليرة لبنانية، لأولادها طعاماً في المدرسة حصراً.
يُفَسَّر ارتفاع سعر الصرف في علم الاقتصاد، بحسب قاعدة العرض والطلب، لكن الدولار انخفض لأكثر من أسبوعين، فيما استمرت اسعار المواد الغذائية والخضار تحلّق بـ”جشع” موصوف على حساب جيوب اللبنانيين الفارغة وعيون الدولة النائمة. تلاشت الوعود بانخفاض الأسعار. في الواقع هي ترتفع فقط عندما يرتفع الدولار، وتبقى مرتفعة لا بل تزيد ارتفاعاً عندما ينخفض.
في السياق، يشرح رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية في لبنان هاني البحصلي ما جرى في السوق عندما انخفض سعر صرف الدولار الى 14 ألف ليرة، لافتاً الى أن الأسعار كانت لتنخفض لو استقر الدولار على الـ15 ألف ليرة، مذكراً بأن التداول يتم به اليوم بين 17500 و18000 ليرة، وهو رقم بات قريباً جداً من تسعيرة دولار الـ19 و20 ألفاً التي كانت قبل تشكيل الحكومة.
يلفت، في حديث لموقع “القوات اللبنانية” الإلكتروني، الى أنه عند تشكيل الحكومة كان انخفاض الدولار نفسياً وليس اقتصادياً، ولا يزال كذلك، لأننا لم نلمس حتى الساعة خطوات عملية تؤدي الى الانخفاض الاقتصادي، معولاً على الجهود التي تبذلها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي لتخطي حال الفوضى التي تعاني منها الأسواق. ويرى أن الرغبة بالاجتماع والتنسيق مع صندوق النقد الدولي، على الرغم من إيجابيتها، لم تتبلور عملياً بعد، إذ لم تستقبل المصارف اللبنانية 3 مليار دولار الموعودة لتسيير الأمور.
يوضح البحصلي أنه عندما انخفض سعر صرف الدولار، كان سعر المحروقات في مستويات متدنية مقارنة مع أسعارها اليوم، ما كان يغطي حينها انخفاض سعر الصرف، بينما اختلفت وعاد سعر الصرف الى الارتفاع مترافقاً مع ارتفاع كبير في أسعار المحروقات، وبالتالي لا عامل انخفاضياً لأسعار السلع. يضيف، “بعيداً من التجاوزات، إذا بقيت الأسعار على ما هي اليوم، تكون طبيعية جداً من الناحية العلمية والتقنية”.
يشدد على أن مؤسسات كثيرة خفّضت أسعارها عندما انخفض سعر صرف الدولار، مقابل متجاوزون كثر لم يفعلوا، مذكراً بأن نقابة مستوردي المواد الغذائية أصدرت لوائح أسعار تتناسب مع سعر صرف دولار الـ15 ألف ليرة، وقد اطلعت عليها وزارة الاقتصاد، علماً أن عملية توزيع المواد الغذائية تمر بمرحلتين، من المُوَرد الى التاجر ومن التاجر الى المستهلك، وإذ يؤكد أن الحلقة الأولى خفّضت الأسعار، يرفض الحديث عن الامتناع عن ذلك في قطاع التجزئة، ما خلق جدلاً بين المستوردين والسوبرماركت التي طالبت بالتعويض عليها.
يرى أن موضوع التسعير بالدولار على الرفوف، يلجم حركة السوق ويقضي على ذرائع عدم تخفيض الأسعار، أو رفعها بشكل هستيري، بحسب سعر صرف الدولار، جازماً بأن اللبنانيين يدورون في حلقة مفرغة وكل جهة تلوم الأخرى. يؤكد أن الحل يعود الى مقومات الدولة والخطة التي ستضعها إضافة الى تثبيت سعر الصرف، ويتابع، “إذا لم يتوقف الانحدار، علينا أن نتوقع فوضى عارمة في الأسواق”.
يجزم البحصلي بأن نسبة الاستهلاك تراجعت بشكل لافت، رافضاً الخوض بأرقام غير علمية، لكنه يشير في المقابل، الى أن فاتورة الاستيراد تراجعت بين عامي 2019 و2020، من عشرين مليار الى عشر مليارات، أي بنسبة 50 بالمئة، من دون أن يعني ذلك إطلاقاً ارتفاعاً في الإنتاج، لأن المواد الأولية أيضاً مستوردة.
أي عملية نسخ من دون ذكر المصدر تعرض صاحبها للملاحقة القانونية