ما أن أُعلن عن زيارة المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي محمود محيي الدين لبنان، خلال 10 أيام، للبحث مع المسؤولين في التعاون وتحديد أسس عملية المفاوضات ورسم معالم خطة التعافي المنشودة، حتى سارع حزب الله إلى إيصال “رسائله” المحمَّلة بالتلميح إلى حدود يرسمها للمفاوض اللبناني، من خلال القول “ما نجده مناسباً نأخذ به وما نجده غير مناسب نعترض عليه، وسنناقش في التفاصيل…”.
ويبدو موقف قاسم مختلفاً عمّا درج عليه الحزب طوال العقود الماضية، من شيطنة لصندوق النقد وسائر المؤسسات الدولية، واعتبارها أدوات ومطيّة للاستعمار والاحتلال الغربي، خصوصاً الأميركي. فما الذي دفع حزب الله لتليين موقفه واعتبار التفاوض مع الصندوق أمراً مقبولاً؟ وما هي الضرورات الحالية التي أباحت المحظورات السابقة وجعلتها “حلالاً” مشروعاً بالنسبة إليه، على الرغم من الإشارة “الخجولة” إلى ما يناسب وما لا يناسب؟
المحلل السياسي علي الأمين، يرى، في حديث إلى موقع القوات اللبنانية الإلكتروني، أن “الأهم والجوهر في كلام قاسم، موافقة حزب الله على التفاوض مع صندوق النقد. أما القول نقبل بكذا ونرفض كذا، فهذا مفهوم، إذ من الطبيعي أن الدولة اللبنانية لن تقول إنها ستوقِّع على كل ما يطرحه صندوق النقد بل ستناقش معه، والوفد اللبناني الذي تم تشكيله للتفاوض (رح ياخد ويعطي)”.
ويعتبر الأمين، أنه “من الطبيعي أن حزب الله، أو أي جهة سياسية، لن تقول إنها ستوافق على كل شيء كما لن ترفض مسبقاً كل شيء. بالتالي، كلام قاسم لا يعني شيئاً عملياً، لأن المهم هو قرار الموافقة على الانخراط في التفاوض مع صندوق النقد الذي لطالما كان حزب الله، حين لم يكن موضوع التفاوض مع الصندوق مطروحاً، يرفض ذلك، ويعتبر أن خلفياته و(روشتّاته) معروفة، فلماذا يوافق عليه الآن؟!. والقول نوافق هنا ونرفض هناك، هذا تفصيل لا يعكس جوهر الموقف”.
وبشأن خلفيات الموقف الآن، يشير الأمين إلى أن “حزب الله في كل مواقفه ومساره، حتى في ملف التفاوض على ترسيم الحدود الجنوبية، يتبع الإيقاع الإيراني. فإذا قررت إيران أنها لا تريد التفاوض يصبح حراماً واعترافاً بالعدو، وهذا ما شهدناه طوال السنوات الماضية من مواقف وكلام عن أننا لن نقبل بالتفاوض والجلوس مع العدو وما شابه”، معتبراً أن “ما أفضى إلى التفاوض القائم على ترسيم الحدود الجنوبية، اعتبارات إيرانية، وهذا ما يسير حزب الله بموجبه”.
ويلفت، إلى أن “الحزب دائماً ما يتخذ مواقف مطلقة ومتشددة يذهب بها إلى الآخر، لكنه لا يتخذها من منطلق مبدئي بل تبعاً لأن الإيرانيين لا يريدون التفاوض الآن، وليس لأن التفاوض جيد أو سيِّئ إنما لأن المصلحة الإيرانية لا تقتضي الدخول الآن في مسار التفاوض”.
وبرأي الأمين، أن “تعامل حزب الله مع صندوق النقد يسير أيضاً على إيقاع الموقف الإيراني بالدرجة الأولى، لأن طهران هي التي تقرِّر في هذه المسألة، والاعتبارات الإقليمية الخارجية هي الأساس في موافقة الحزب”، لافتاً إلى “بُعد داخلي أيضاً في موقفه”.
ويوضح، أن هناك “تأثيراً بالتأكيد للأزمة المتفاقمة في اتخاذ الحزب هذا الموقف. فعلى الرغم من أنه أساساً لا يبحث عن حلول بل عن سيطرة ونفوذ ودور أساسي له، لكنه يرى أن واقع الحال والتدهور والانهيار الحاصل في لبنان بدأ يمسّ دوره ونفوذه. بالتالي هو لا يستطيع الذهاب بعيداً في الرفض وعدم القبول، لأن الأمر بدأ يمسّ نفوذه والبيئة الحاضنة التي يستند عليها وتُشكِّل حصناً له”.
وبالتالي، يقول المحلل ذاته، “حزب الله ليس بعيداً عن الأزمة وهو يتأثر بها أيضاً، وإن اعتبر البعض بشكل أقل من سائر اللبنانيين، ربما. لكن البيئة الشيعية موجودة داخل لبنان ومصالحها مرتبطة بلبنان، وبالتالي من الواضح أن هذه البيئة تضغط أيضاً باتجاه إيجاد حلول ما، ولا مخارج أخرى”.
ويشدد، على أن “كل الكلام عن التوجه شرقاً كلام في الهواء وأثبت أن لا مكان له على أرض الواقع. لا لأن هناك جزءاً من اللبنانيين يرفض ذلك، بل لأنه ليس معطىً جدّياً وحقيقياً وله مرتكزات فعلية. فلا روسيا تطرح المجيئ لإنقاذ لبنان أو لديها الإمكانيات لذلك، أضف إلى أن تاريخها لا يوحي أنها طرف اقتصادي يقدم مساعدات ويقيم مشاريع جدية وحقيقية بمليارات الدولارات”.
ويشير الأمين، إلى أن”الموقف الصيني أيضاً واضح. حتى أن الصينيين أعلنوا عن أنهم لا يدخلون إلى بلد يقولون إن فيه انقسامات وأخطاراً وعدم استقرار. فالصينيون أيضاً ليسوا كرماً على درب، ولا حماسة لديهم للانخراط في نشاط تمويلي. بالتالي يدرك حزب الله أن لا مفرّ من صندوق النقد الدولي، علماً أن لبنان غير ملزم ولا أحد سيصفعه على يده، كما يقال، في حال لم يذهب باتجاهه، إنما لأن اللجوء إليه هو الخيار الممكن المتاح، ولا غيره”.
ويضيف، “سواء بموافقة حزب الله أو عدم موافقته، أو إن كان اللجوء إلى صندوق النقد مضرّاً أو مفيداً، هو الخيار المتاح. وحُكماً، في ظل الوضع الحالي ومستوى الانهيار الذي وصل إليه لبنان، علينا أن نتوقع أن المفاوضات المرتقبة مع الصندوق لن تكون سهلة، إنما ستكون هناك شروط قد تكون قاسية”.
ويرى الأمين، أن “الأخطر بالنسبة للمنظومة الحاكمة حول التعامل مع الصندوق، يتعلق بالشروط التي سيفرضها على عملية صرف الأموال على المشاريع المتوقعة. فمسألة المحاصصة والفساد والصفقات والكوميسيونات لن تكون سهلة، لأن كل الوضع سيكون تحت رقابة الصندوق، وهذا ما يزعج المنظومة بالدرجة الأساسية”.
ويلفت، إلى أن “حزب الله يستخدم المواقف التصعيدية عالية السقوف ويضعها في سياق مبدئي، لكنه في النهاية يلجأ إلى تسويات حينما تفرض الأوامر أو الضرورات عليه التسوية، ويجد لها مخارج. بمعنى أن المصالح الإيرانية ومصالح الحزب اقتضت الآن، تبعاً لحساباتهما، ألا يشكِّلا عائقاً أمام دخول لبنان في مفاوضات مع صندوق النقد، وهذا ما بدَّل الموقف”.
ويقدِّم الأمين، مثلاً على ذلك، موضحاً أن “حزب الله كان دائماً منذ نشأته وطوال تاريخه ضد إقامة التماثيل، والجميع يذكر تفجير تمثال الشاعر خليل مطران في بعلبك، على قاعدة أن التماثيل حرامٌ، لنشاهِد منذ فترة إقامة تمثال لقاسم سليماني، وأصبح الأمر حلالاً. بمعنى أنه عندما تقتضي المصلحة التي يريدونها، يجدون الفتوى لها على الطريقة اللبنانية. فمرّة يكون صندوق النقد الدولي الشيطان الأكبر، ولاحقاً (لأ، بِصير ماشي الحال)”.
أي عملية نسخ من دون ذكر المصدر تعرض صاحبها للملاحقة القانونية