في العصرِ الرَّديء، عندَنا، لا يُحَلُّ مِئزرُ الأَلسنةِ إلّا للفُسوقِ من دونِ هالةٍ وِقاريّة، وكأنّ القَبيحي النُّطقِ لا يعلمون أنّ للِّسانِ دَوراً رياديّاً في النّاس، ما يُصَنِّفُهُ عِلماً قائماً بذاتِه. فاللّسانُ هو ترجمانُ العقلِ آلةِ الرّشد، إِفلاسُهُ يؤشّرُ لإفلاسِ الفكرِ والرويّة، وإسفافُهُ يفضحُ آفاتِ الخُلق. من هنا، كان الصَّمتُ، في الكثيرِ من الأحيان، باباً من أبوابِ النّباهة.
يستفيقُ اللّسانُ على هَذَيانٍ أرعَن، مُرَوِّجاً لبِدعةٍ مَقيتة، لا يُفهَمُ منها سوى إنعاشٍ لمواسمِ الحقدِ في نفسٍ ممسوسةٍ، صاحبُها يستخدمُ خلايا نُخاعِهِ الرّماديّةَ ليرسمَ كَذِباً ضعيفاً يستجدي بهِ تَهَجُّماً فاشلاً، وإلصاقاً لِتُهَمٍ لا يصدّقُها إلّا البُلَهاء. واستناداً، فإنّ ما ” يُميتُ القلبَ، ويجلبُ الهَمَّ “، كما يقول الإمامُ عليٌّ في خطبةِ الجِهاد، هو تأزيمُ اللِّسان، أي حَشرُهُ في موضعٍ بائسٍ ليسَ له، في الأصل، ما يستدعي عمليّةَ إسعافٍ شائقةً لرَتقِ الخُروقِ التي فُوِّرَ منها ما يَندى له جبينُ القِيَم.
على مفرقٍ في زمانِ اللّسان، وُضِعَت إشكاليّةُ المعايير، وفي طليعتِها أنّ العفّةَ ينبغي أن تكونَ وليمةَ اللّسانِ الدّائمة. وقد حانَ الوقتُ للعودةِ الى مَتنِ المقاييس، بعدَ أن بالَغَ الكثيرون، طويلاً، في الهوامش، وكانوا يقتاتُونَ من فُتاتِها، مَشَوِّهينَ الكلمةَ بِلَطمِها بما خَبُثَ من المَعايِب. إنَّ الشّأنَ مع هؤلاء، ليسَ شأناً مع السَقّاءِ بل مع الإِناءِ، ما يدلُّ على تفاهةِ نَسجِ الحَكْيِ أكثرَ من تفاهةِ شَرابِه، فنبيذُ الكلامِ يُنتَقى عِنَبُهُ من مَليحِ الكَرمةِ لا من شَوكٍ عاري العظام، لو طُرِحَ الى الذِّئبِ لَعافَهُ.
إنّ واقعَ اللّسانِ في عهدِهِ الخَشَبيّ، اليوم، أخطأَهُ الحظُّ من ذخائرِ التَّعبير، لِهَجِرِ الرّشدِ مسالكَه، ما انسحبَ عذاباً للآذان. من هنا، ينبغي أن تكون قضيةُ اللّسانِ قضيّةً آهِلةً، بمعنى أنّها لا تنتهي، فحالُ اللّسانِ حالٌ مُخجِلَةٌ، مأسويّةٌ، لم ينفعْ معها، بعدُ، زَجرٌ لتعودَ الى نَصيبِها من القِيَم. وهذه الحالُ الموبوءةُ حوَّلَتِ اللّسانَ آلةً نَجِسَةً ترقصُ رقصةَ الرّذيلة، معدومةَ الأهليّةِ على مستوى الصّفاء، تؤكِّدُ على أنّ ولادتَها كانت في زمنِ الخطيئة.
إنّ حقَّ اللّسانِ، كما يشيرُ أصحابُ الدِّرايةِ والفَهم، أن يُصبحَ حلّاً بعدَ أن كان أزمة، فهو ليس مَسخاً في نزعتِهِ الطبيعيّة، بل هو عقلٌ تامٌ موصولُ الشُّعاعِ، يترجمُ للفكرِ فكأنّه يَلِجُ قصراً لِأُسرةٍ عريقة، فمن حقِّ العقلِ أن يُعامَلَ، باللّسانِ، بأفضلَ ما يستحقُّ مَكانةً. أمّا إذا كان حَبلُ اللّسانِ، معه، غيرَ مَتين، تَشيحُ منطوقاتُه عن الجزالةِ، والصّلاحِ، والإستقامة، فذلك منتهى الضّلالِ، ووصمةُ جهلٍ مُهلِكَة.
إنّ ديناميّةَ الألسنةِ في المهاتراتِ تتجاوزُ، بِتَواترِها، أيَّ إيقاعٍ لحيثيّةٍ مُشابِهة، فهي متعاظمةٌ، في وقتِنا، تستخدمُ مختلفَ أنواعِ الطّعنِ، والخداعِ، والتَّخريفِ، والتّزييف…منتهجةً إستراتيجيّةَ النَّيلِ من الذين يَثِبون فوقَ المَسموحِ بالفَرض، الى فسحاتِ الحريّةِ المضبوطةِ في التَّعبيرِ عن الرأي. ومعلومٌ، تماماً، أنّ دربَ حريّةِ التّعبيرِ كثيرةُ الحُفَر، وإِنْ مكفولةً بشرعةِ حقوقِ الإنسان، وبالدّستورِ والقوانين الوَضعيّة.
إنّ الإختلافَ في وجهاتِ النَّظَرِ مُباحٌ، أمّا أسلوبُ التَجَنّي بالإستنتاجِ غيرِ المُوَثَّقِ، وغيرِ المَدعومِ بالبرهان، فهو تَعَسُّفٌ مردود، أولاً، وهو، ثانياً، نوعٌ من التَشَفّي الممقوتِ بدونِ حِجّة، يُساقُ افتِراءً، ولا يمكنُ توصيفُهُ إلّا بالوَرَمِ المَرَضيّ في السّلوك. فتَقويلُ كاتِبٍ ما لم يَقُلْهُ، وتَقصيدُهُ ما لم يقصدْه، وتحديدُ وَجهةِ كلامِهِ لطَرَفٍ معيَّنٍ في حين لا يستهدفُ الكلامُ أحداً، بالمُفرَد، بلِ العُمومَ، بالمُطلَق، ليسَ سوى تأكيدٍ مُبرَمٍ على المَثَلِ المعروف ” كِلْ مين في مْسَلِّة تحت باطو بْتِنعَرو “.
أمّا الأدهى، أو الأَشنَع، فكَيلُ الإتهاماتِ سياسيّاً، ووطنيّاً، وأخلاقيّاً… والتي ينالُ بعضُها من الكرامةِ الشخصيّة، من مثلِ الخيانةِ، والعَمالةِ، وقَبضِ الرّشاوى لمهاجمةِ مَن يعتبرونَ أنّ الكلامَ يستقصدُهم فقط.
كان حرِيّاً بالمُتَّهِمين، أن ينتدِبوا عقولَهم لِتُمعِنَ النَّظَرَ، مَلِيّاً، بمضمونِ ما جاءَ في المقالاتِ، والتّعليقات، ليصلوا الى صَحوةٍ يتمُّ معها العُبورُ الى مصالحةٍ مع الحقيقةِ التي، وإنْ شُوِّهَت، تبقى بِمنأى عن الشُّبهةِ، كالكرامةِ بالذّات..