تستمر الصولات والجولات بين المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت طارق بيطار، الذي يصرّ على استكمال تحقيقاته في القضية بالطريقة القانونية التي بدأها، وبين المنظومة الحاكمة التي لم ينفعها التلطي خلف سلاح الدويلة، والاستقواء الذي تحوّل إلى رعب من القضاء. ما نفع الدساتير والقوانين إن لم يكن القضاء عادلاً؟ وكيف لدولة أن تُبنى إذا كانت تنتهك نفسها آلاف المرات، غير قادرة على حماية قضائها، وهو الأمل الوحيد في دول العالم!
الأمثلة من الكون كثيرة. محاكمات رؤساء، ووزراء وإدانات وسجن. لم تقم الدنيا أو تقعد، لأن العدالة تعلو ولا يعلو عليها! أما في لبنان، فالمزرعة تكشف عن أسوأ صورها.
وزير المال الأسبق علي حسن خليل المطلوب بجرم القتل والاحراق والتخريب، يهدد ويتوعد ويتمرد على التحقيق، رافضاً الحضور أمام القاضي. الأمر ذاته ينسحب على وزيري الداخلية الأسبقين نهاد المشنوق والأشغال غازي زعيتر اللذين يختبئان خلف حصانات متهاوية، علماً أن مذكرة توقيف صدرت بحق الوزير الأسبق يوسف فنيانوس في 16 أيلول الماضي، ولم يتجرأ أحد على توقيفه، فيما رئيس الحكومة السابق حسان دياب متوارٍ في الخارج، كالفار من العدالة، يرفض العودة ويدعي عدم تبلّغه لصقاً.
كل ذلك، لأن مسؤولاً حزبياً هدد بيطار، وانضم اليه رئيس حزبه متوعداً، واضعاً مجلس الوزراء في موقف مهين، غير آبه بمبدأ فصل السلطات الذي يكرسه الدستور. لكن عفواً، أي دستور هذا بالنسبة الى من انهكته قوته الفائضة، حتى خيّل اليه أنه الآمر الناهي… وبنظره، ما نفع الدستور؟
بعيداً من مزرعتنا السياسية، انتهى المطاف بعدد من الرؤساء والوزراء والمسؤولين في العالم، بالسجن، بينما لا يزال كثيرون يَحضرون محاكماتهم ليُبنى على الشيء مقتضاه. فقد شهدت أوروبا في الأعوام العشرين الأخيرة، استقالة أو إقالة أكثر من 10 رؤساء دول وحكومات على خلفية تهم فساد ورشوة واستغلال نفوذ، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بأكبر ثالث انفجار في العالم؟
في فرنسا، سيق رؤساء ورؤساء حكومات ووزراء الى التحقيق. واتُّهِم آخر رئيسين فرنسيين من اليمين الوسطي، وهما نيكولا ساركوزي وجاك شيراك، بالفساد بعد مغادرة قصر الإليزيه. شيراك مثل أمام المحكمة بعد اتهامه بفضائح فساد عندما كان رئيساً لبلدية باريس، وصدر بحقه حكماً بالسجن عامين. وحوكم نيكولا ساركوزي بوضعه 3 سنوات في الإقامة الجبرية مع سوار إلكتروني، بتهم التنصت والفساد واستغلال النفوذ، فيما باءت جميع محاولاته لإلغاء الحكم بالفشل.
رؤساء حكومات فرنسيين حوكموا أيضاً، فقد أدين آلان جوبيه بتهمة مساعدة شيراك على اختلاس أموال دافعي الضرائب في باريس لإدارة حزبهما السياسي، كذلك، أُدين فرانسوا فيون بتهمة دفع رواتب من البرلمان لزوجته.
في إيطاليا، مثل رئيس الوزراء السابق الذي تولى الحكم لعشر سنوات، سيلفيو برلسكوني أمام القضاء 2500 مرة في 106 قضايا، وصدر بحقه أكثر من حكم. أدين بالتهرب الضريبي والاحتيال، وحكمت محاكمات قضية روبي عليه بالسجن 7 سنوات، الأمر الذي أدّى إلى طرده من مجلس الشيوخ وأنهى حياته السياسية.
في إسبانيا، أدت تغطية رئيس الحكومة ماريانو راخوي لأعضاء من حزبه، الى إنهاء حياته السياسية. فقد سحب البرلمان العام 2018 الثقة من راخوي على خلفية تهم فساد لاحقت العديد من رجال الحزب الحاكم الذي يترأسه، وكانت التحقيقات التي بدأت منذ سنوات، أفضت الى اتهام بعضهم بالفساد، وصدور أحكام بالسجن بحقهم.
في كرواتيا، دانت المحكمة رئيس الوزراء السابق ايفو سانادير، بالسجن تسع سنوات، لكن المحكمة ألغت الحكم وأفرجت عنه لاحقاً، بعد سجن لبعض الوقت، أما في البرتغال، قضى رئيس الوزراء السابق، جوزيه سوكراتس، أكثر من تسعة أشهر في التوقيف الاحترازي ووضع في الإقامة الجبرية، كما اتهم بـ31 تهمة رشوة وتبييض أموال وتهرب ضريبي وتزوير مستندات.
نبقى في أوروبا، حيث حُكم على رئيس وزراء رومانيا السابق أدريان ناستاسه، بالسجن أربع سنوات ونصف السنة لإدانته بالفساد، كما سجن رئيس صربيا ومونتينيغرو، سفيتوزار ماروفيتش، 46 شهراً، لإدانته بالتورط في قضية فساد تتضمن صفقات مشبوهة لشراء أراض وصفقات بناء. وحكم على رئيس وزراء مولدافيا فيلاد فيلات، بالسجن 9 سنوات لإدانته بالفساد وإساءة استخدام السلطة، وتلقي رشوة تقدر بنحو 260 مليون دولار.
لم تغب الأحكام القضائية عن رؤساء ومسؤولين في الولايات المتحدة، ففضيحة ووترغايت التي وصفت بأم الفضائح السياسية، أجبرت الرئيس الأميركي ريشارد نيكسون على الاستقالة من منصبه بعد ثبوت تورطه بالتجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس. ولم تفلح كل محاولاته في عرقلة التحقيق وتغيير نتيجته، فاستقال من منصبه الرئاسي، وأوكل تسيير شؤون البلاد لنائبه جيرالد فورد.
الرئيس الأميركي الديمقراطي بيل كلنتون، خضع بدوره للتحقيق واحتجز بتهمة ازدراء المحكمة، وعلقت رخصته القانونية لمدة خمس سنوات، على خلفية الفضيحة السياسية الجنسية التي طاولته مع موظفة البيض الأبيض مونيكا لونسكي.
قبل ذلك بأعوام، دانت الحكومة الفيدرالية، حاكم ولاية نورث داكوتا، ويليام لانغر بالفساد وأجبرته على ترك منصبه، بسبب إجباره موظفي الولاية التبرع لحزبه.
الأحكام القضائية بحق رسميين شملت أيضاً أميركا اللاتينية، فرئيس غواتيمالا ألفونسو بورتيو الذي سُلّم الى الولايات المتحدة، حُكم بالسجن 5 سنوات وعشرة أشهر لإدانته بتبييض الأموال، وسجن رئيس البيرو ألبيرتو فوجيميري بعد إدانته بالسجن 25 عاماً في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان.
عمر إسرائيل القصير، لم يحل من دون تحقيق العدالة بحق مسؤولين اتهموا بالرشوة والفساد والتحرش الجنسي، فالتحقيقات مع رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت بتهم فساد قام بها أثناء رئاسته لبلدية القدس، أفضت الى الحكم عليه بالسجن ست سنوات وتغريمه مليون شيكل. كذلك، أدين الرئيس الإسرائيلي السابق موشى كتساف بتهمة الاغتصاب والتحرش بخمس نساء عملن معه عندما كان وزيراً للسياحة في التسعينيات، وتم الحكم رسميًا عليه بعد انتهاء ولايته، بالسجن سبعة أعوام قضى منها خمسة.
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو سقط بدوره أمام مطرقة العدالة، بعد اتهامه بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، ما شكل ضربة سياسية قاضية لمستقبله السياسي، وخلفه رئيس الوزراء الحالي نفتالي بنت.
في الشرق الأدنى، أمثلة كثيرة، فقد أدينت الرئيسة الكورية الجنوبية المعزولة بارك غيون، هي في السجن، 24 عاما بتهمة الفساد. وصدر حكم قضى بسجن رئيس الوزراء الماليزي السابق نجيب عبد الرزاق بعد إدانته في قضية فساد وإساءة استخدام السلطة، 12 عاماً، وغرامة قدرها 50 مليون دولار.
عربياً، دان القضاء المصري الرئيس الراحل حسني مبارك، بالسجن المؤبد في قضية قتل المتظاهرين عقب ثورة “25 يناير 2011″، بعد 46 جلسة محاكمة.
وليس بعيداً من الثورات العربية التي أطاحت أنظمة وأسقطت عروشاً، أصدرت المحاكم العسكرية التونسية أحكاماً بالسجن مدى الحياة، ضد الرئيس التونسي السابق، زين العابدين بن علي، لكنها لم تنفذ.
كما حكم القضاء السوداني على الرئيس المخلوع عمر البشير بالإيداع عامين في مؤسسة إصلاح اجتماعي مع مصادرة الأموال التي تحصل عليها في قضية “تداول النقد الأجنبي بشكل غير قانوني”، لكن السودان قررت في آب الماضي، تسليم البشير واثنين من مساعديه إلى المحكمة الجنائية الدولية التي تتهمهم بارتكاب إبادة وجرائم ضد الإنسانية.
هذا غيض من فيض العدالة “الرسمية العالمية” في هذا الكون الشاسع. هل من يقرأ أو يهتم؟ هل تعني للمدعى عليهم في قضية انفجار المرفأ ومن يحميهم ويغطيهم ويهدد بالسلم الأهلي، هذه المناصب والأسماء والدول شيئاً؟ يوماً ما، ستتحقق العدالة التي ستكون أقوى من صواريخكم واصواتكم النشاز… علكّم تتعظون من أمثلة العالم.
أي عملية نسخ من دون ذكر المصدر تعرض صاحبها للملاحقة القانونية