سمير جعجع رجل الإستقلال الثالث

حجم الخط

كتب أنطوان مراد في “المسيرة” – العدد 1722

سمير جعجع رجل الإستقلال الثالث

المواجهة في أوجّها بين الدويلة وسائر اللبنانيين

لقد كان الإستقلال بالنسبة للبنان دائمًا مسألة سياسية بقدر ما هو مسألة مبدئية، أقله بالنسبة لقسم من اللبنانيين أو لفئة أو لفئات منهم، بحسب تنوّع الظروف واختلاف الأحوال. والإستقلال تاليًا وفق «المعايير» اللبنانية كان في الكثير من المحطات موضع تأويل وتفسير وتباين وحتى شروط وحسابات.

لقد خبر اللبنانيون الإستقلال كواقع منذ العصر الفينيقي، ولا بأس من هذه العودة في التاريخ طالما أن رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، الذي يمثل حزبه اليوم مشروع إلغاء الإستقلال اللبناني، فرّق اللبنانيين بين من يؤمن بالمقاومة وبين من يعتبر نفسه فينيقيًا، في نسخة تمييزية جديدة تشابه المعادلة التي تُوزِّع اللبنانيين بين أشرف الناس وبين الآخرين من خونة وعملاء أو مشتبه بهم.

ففي العصر الفينيقي شكلت المدن الساحلية كيانات مستقلة، وكثيرًا ما خاضت المعارك أو قاومت الحصار كل بمعزل عن الأخرى، وإن كانت تلتقي أحيانا على موقف واحد في ما كان يشبه الحالة الكونفدرالية. فصيدا قاومت الملك الفارسي أرتحششتا الثالث وحيدة وأحرقت نفسها كي لا تمنحه شرف الإنتصار عليها، وصور بدورها قاومت الإسكندر المقدوني وحدها وجعلته يتمرّغ تحت أسوارها أشهرًا عدة.

وقد حظي لبنان على مر العصور بتمايز معين عن سواه من الأقاليم في المنطقة، بحيث تمتع بنسبة أو بأخرى بنوع من الإستقلال الذاتي، لا سيما في ظل أكثر من أمبراطور روماني من أصول لبنانية أو يمت إلى لبنان بصلة، وصولاً إلى زمن الفتح العربي، إذ حافظ الجبل اللبناني على استقلاله بنسبة كبيرة، وقد دان حينها الإمام أبو عمرو عبد الرحمن الأوزاعي التعرّض للمسيحيين في جبل لبنان على يد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور وواليه في الشام، بعدما ثار المسيحيون و»شقوا عصا الطاعة» وخاضوا معركة مشهودة في منطقة المنيطرة في منتصف القرن الثامن.

وفي عصر المماليك تمسك اللبنانيون باستقلالهم وكثيرًا ما التقوا على اختلاف طوائفهم على مقاومة الجور المملوكي، وتصدى المسيحيون بخاصة لعدد من الولاة مجتمعين وهزموا الجيوش المملوكية شر هزيمة قبل أن ينجح المماليك بمحاصرة الجبل واجتياح كسروان التي كانت مناطق عدة تُسمّى باسمها، لرفض الأهالي الخضوع والتخلي عن استقلالهم الذاتي، ومن هنا جاءت تسمية فتوح كسروان التي عرفت طويلاً بالعاصية.

على أن العصر العثماني تمايز بدوره بمد وجزر، في ظل بروز التعاون الدرزي الماروني للحفاظ على إستقلال ذاتي للجبل اللبناني، وهو أكثر ما تجلّى في عهد الإمارة لا سيما مع الأمير فخرالدين الثاني الكبير واستمر مع الشهابيين، علمًا أن العثمانيين نجحوا في زرع بذور الفتنة في العام 1840 وصولاً إلى الفتنة الكبرى في العام 1860 والتي أفضت عمليًا إلى تكريس إستقلال ذاتي واسع للجبل اللبناني الذي ضم أكثرية مسيحية وأقلية درزية كبيرة إلى أقليتين من السنّة والشيعة.

وقد شكل زمن المتصرفية تجربة معبّرة مع ولادة بواكير الإدارة اللبنانية والديموقراطية البرلمانية، علمًا أن أول ما بادر إليه جمال باشا في مطلع الحرب العالمية الأولى هو إلغاء إستقلال الجبل وإخضاعه للأحكام العرفية.

ومع لبنان الكبير، مرّ لبنان بمرحلة إنتقالية أقرب إلى التدريب على الإستقلال التام وفق مفهوم الإنتداب، وصولاً إلى إنجاز الإستقلال في العام 1943، وهو إستقلال شهد إهتزازت عدة، مع بروز النفوذ الإنكليزي بعد الفرنسي، ومن ثم تقدم النفوذ الأميركي  بعد حرب السويس واقتراب لبنان من الظلال غير المباشرة لحلف بغداد في مواجهة الظاهرة الناصرية.

على أن العامل الفلسطيني شكل قضمًا مطردًا للإستقلال اللبناني مع التنازل الذي فرضه إتفاق القاهرة وتفاقم الموقف وصولاً إلى انفجار الحرب، فتشلّع الإستقلال بين فريق يستظل كوفية أبي عمار، وفريق يتمسك بالإستقلال التام، مرورًا بدخول العامل السوري تحت عباءة قوة الردع العربية مقابل دخول العامل الإسرائيلي بحجة التصدي للعمليات الفلسطينية جنوبًا، فتوزع لبنان بين ثلاثة إحتلالات مقابل منطقة حرة في الوسط.

مع الطائف، لم يستعد لبنان إستقلاله بل خضع للوصاية السورية التي كانت الوجه الظاهري للإحتلال الفعلي، لتنحسر هذه الوصاية مع ثورة الأرز وولادة الإستقلال الثاني الذي تبيّن أنه كان قصير النفس، لأن الوصاية الإيرانية ممثلة بسلاح «حزب الله» هي التي أمسكت تدريجًا بالسلطة سواء بتعطيلها أو بالإنقضاض عليها كما هو حاصل اليوم.

اليوم نحن في مخاض عسير جدًا للإستقلال الثالث، ورجل هذا الإستقلال هو سمير جعجع، الذي يقف حجر عثرة أمام إستكمال مشروع الهيمنة على لبنان بالقوة، في وقت يبدو بعض الأطراف السياديين من التقليديين فضلاً عن «الثورجيين» في شبه غيبوبة، وكأنهم غير معنيين بما يواجه لبنان من تحدٍ مصيري وكياني. فخضوع لبنان كليًا لمنطق الدويلة ومن خلفها المحور يعني نهاية مبرِّر وجود لبنان الذي سيتحول مجرد ولاية تابعة أو ريف ملحق مع هيكل دولة ودستور صوَري.

عندما ناضل آباء الإستقلال للوصول إلى وطن حر ودولة سيدة، لم يكن في خلدهم أن الإستقلال سيصبح وجهة نظر، وأن ثمة طرفاً لبنانيًا على الأقل سيسعى كما هو حاصل حاليًا للسيطرة على بقية المكوّنات بدعم خارجي نافر ينتهك الحد الأدنى من شروط السيادة ولا يقيم للدولة اللبنانية ولمؤسساتها وزناً.

والإستقلال لا ينحصر فقط بالمعنى الدستوري والسياسي للكلمة، بل يعني إستقلالاً كاملاً على الصعيدين الاقتصادي والمالي، فيما الواقع يؤكد أن الكارثة الاقتصادية والمالية التي بلغناها اليوم، تعود في جزء كبير منها إلى ما يشبه خطة محكمة لتقويض أركان الدولة وتدمير الاقتصاد اللبناني وجعل اللبنانيين يتخلّون عن عناوين الإستقلال والسيادة والحرية، سعيًا وراء تأمين رغيفهم ودوائهم، وصولاً إلى تمنينهم بالمساعدات الخارجية الملغومة.

الإستقلال اليوم لا يمكن أن يستمر وجهة نظر، بل إن المرحلة المفصلية التي نعيش ستكون حاسمة، علمًا أن جماعة السلطة والدويلة يراهنون على استحضار ممارسات الوصاية وتركيباتها الخبيثة لقطع الطريق أمام التغيير الشعبي الحقيقي في صناديق الإقتراع.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل