بعكس التوقعات “المنطقية” بارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء جرّاء الأزمة المتفجرة بين لبنان والسعودية ودول الخليج، لم تُسجَّل قفزات لافتة لسعر الصرف، وبقي الدولار محافظاً على قدر معيَّن من “الاستقرار النسبي” إذا صحَّ التعبير، على الرغم من ارتفاعه “الخجول” بشكل طفيف. فما هي الأسباب التي تقف وراء عدم تفلُّت الدولار على الرغم من هذه الأزمة الخطيرة؟ وهل سيبقى واقع الدولار على هذه الحال في المستقبل، أم أن ما نشهده هو هدوء آنيّ “مصطنع” يسبق “عاصفة الدولار” المقبلة؟
رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني، يرى، في حديث إلى موقع القوات اللبنانية الإلكتروني، أن “الأزمة الأخيرة مع دول الخليج ستتسبَّب بمشكلة كبيرة على مجمل الوضع الاقتصادي والمالي وارتفاع سعر الدولار في السوق الموازية، لأن الخليج يعتبر أكبر سوق للصادرات اللبنانية، والسعودية لوحدها تستورد من لبنان ما قيمته نحو 250 مليون دولار سنوياً”.
ويشير مارديني، إلى أنه “بالإضافة إلى ذلك، هناك تحويلات اللبنانيين العاملين في الدول الخليجية بمليارات الدولارات سنوياً. بالتالي، بين الصادرات اللبنانية إلى الخليج وتحويلات اللبنانيين، تعتبر هذه الدول شريكاً أساسياً للبنان، وأي مشكلة في العلاقات مع دول الخليج ستؤثر حتماً على سعر الصرف، باعتبار فقدان كمية الدولارات الواردة من التصدير، بالإضافة إلى الخطر الجديّ بوقف التحويلات المالية مع تصاعد حدة الأزمة”.
“لكن فضلاً عن كل ذلك، يجب عدم إغفال مسألة المساعدات المالية والنقدية من دول الخليج، وخصوصاً السعودية”، يقول مارديني، مضيفاً، أن “المملكة كانت تاريخياً تساعد لبنان كثيراً. فعند كل محطة وفي أي أزمة اقتصادية أو ضغط على الليرة كان يشهدها لبنان، كانت السعودية تضع ودائع بالعملات الأجنبية في المصرف المركزي وتحوِّل أموالاً إلى لبنان لمساعدته على استقرار الوضع”.
ويلفت، إلى أنه “قبل نحو أسبوع من نشوء الأزمة الحالية مع السعودية، قامت المملكة بتحويل وديعة إلى باكستان بقيمة نحو 3.2 مليار دولار، ووديعة ثانية إلى مصر بقيمة 5.3 مليار دولار تقريباً. وهذه الودائع بقيمة 8.5 مليار دولار أودعتها السعودية دعماً لأصدقائها وحاجتهم إلى المساعدة في ظل أوضاع معينة”.
بالتالي، يشدد مارديني، على أن “الأمر لا يقتصر على الصادرات والتحويلات فقط بل هناك المساعدات السعودية المالية التي خسرها لبنان، والتي كانت تؤمِّن سيولة بالعملات الأجنبية وبالدولار النقدي الحقيقي، ما كان يعطي ثقة بالاقتصاد اللبناني ويعزِّز من قوة الليرة اللبنانية واستقرارها. فخسارة صداقة دولة مثل السعودية بالنسبة لبلد مثل لبنان، كان يستند إلى هذه الصداقة، مسألة ليست سهلة”.
ويوضح، أن “تأثير هذه الأزمة على سعر الصرف حتمي، لأن عرض الدولار في السوق سينخفض بفعل توقف دخول الدولارات الناتجة عن التصدير، لكن الأخطر هو انخفاض إضافي في منسوب الثقة بلبنان. فحالة الخوف والقلق من تصعيد دول الخليج للموقف أكثر، وربما وصولاً إلى وقف التحويلات منها، يدفع اللبنانيين للتهافت على تحويل ليراتهم إلى دولار، بالتالي تنخفض الثقة بالليرة ويزداد الطلب على الدولار. بمعنى، ليس فقط عرض الدولار في السوق سينخفض، بل أكبر من ذلك، سيرتفع الطلب على الدولار أكثر”.
ويعتبر مارديني، أن “هذا ما سيحصل عملياً، خصوصاً إن لم يلمس اللبنانيون أي بوادر لحل الأزمة في وقت قريب، وأنها طويلة وتتجه إلى التصعيد، وأن لا عودة للعلاقات في المدى المنظور، فالثقة بالليرة ستنهار أكثر عندها جرّاء معرفتهم بأن لا دولارات ستدخل مجدداً من دول الخليج”، لافتاً إلى أن “العامل النفسي أساسي في هذه المسألة”.
وبرأيه، أن “هذه العوامل تؤثر كثيراً على سعر الصرف، ولاحظنا الضغط في الأيام الماضية، تحديداً على منصة صيرفة. فصحيح أن سعر الصرف في السوق السوداء ارتفع بنسبة قليلة من 20.000 إلى 21.000 ليرة تقريباً، لكن الأساس هو حجم التداول على منصة صيرفة، Sayrafa، الذي ارتفع بشكل كبير جداً. فبعدما كان التداول على المنصة بحدود مليون دولار يومياً، قفز منذ مطلع الشهر الحالي بمعدلات قياسية، ليبلغ يوم الثلاثاء الماضي، 9 ملايين و500 ألف دولار”.
وتبعاً لذلك، يعتبر مارديني أنه “من الواضح أن المصرف المركزي يضخّ دولارات في السوق من أجل ضبط سعر الصرف. لكن في ظل محدودية الاحتياطي لدى مصرف لبنان، لن يتمكن من الاستمرار في ضخ الدولار لفترة طويلة، وبالتالي فإن الضغط على سعر الصرف نتيجة الأزمة مع السعودية، سيتظَّهر في النهاية في سعر الدولار، عاجلاً أم آجلاً. لذلك، المتوقع أن يرتفع سعر الصرف أكثر”.
أما عن تبليغ مصرف لبنان لأصحاب المحطات بأن عليهم تأمين 10% من سعر البنزين بالدولار والباقي بالليرة على سعر 21.000 ل.ل للدولار، يشرح مارديني أن “المركزي يحاول بذلك التخفيف من الضغط على سعر الصرف عن طريق زيادة الطلب على الليرة. بمعنى أن طلبه تأمين 90% من ثمن البنزين بالليرة، نقداً، يعني سحب الليرات من أيديهم لمنع استخدامها لشراء الدولار، وبالتالي زيادة الطلب على الدولار وارتفاع سعر الصرف أكثر”.
ويلفت، إلى “تطور خطير”، يرى أنه “سيزداد مع مرور الوقت”. ويتمثَّل بأن “مصرف لبنان يميِّز بين الليرة نقداً، الـ(كاش)، والليرة الموجودة في المصارف. فكما هناك الدولار المقيَّد الموجود في المصارف والدولار الـ(كاش أو فريش)، نحن نتجه إلى وضع يتم فيه رفض القبض بالليرة المصرفية وطلب الـ(كاش). وبسبب القيود التي توضع على السحب بالليرة سنصل إلى وقت تصبح الليرة نقداً، الـ(فريش)، قيمتها أعلى من قيمة الشيك المصرفي بالليرة”، لافتاً إلى أن هذا “ما بدأنا نلاحظه في الفترة الأخيرة، إذ يتم تصريف الشيكات بالليرة في السوق بأقل من قيمتها الرقمية بنحو 10%”.
ويعتبر، أن “القيود التي توضع على الـ(كاش) والسحب بالليرة بهدف التخفيف من حدة انهيار سعر الصرف راهناً، هي ذاتها ستتسبَّب في المستقبل بمشكلة أكبر. فنتائج هذه القيود العكسية أكبر من فوائدها، بمعنى أنها تخفِّف اليوم بشكل آنيّ الضغط على سعر الصرف، لكنها في المستقبل ستضاعف فقدان الثقة بالقطاع المصرفي، ونصبح أمام واقع فقدان الثقة بالليرة الموجودة في القطاع المصرفي”، مضيفاً أنه “إذا بات الناس في وضع لا يثقون، لا بالدولار ولا بالليرة الموجودين في المصارف، يعني تدهور الثقة بالقطاع المصرفي بأكمله أكثر، وبالتالي ضغط أكبر على الدولار في السوق السوداء وارتفاع سعره أكثر”.
ويرى مارديني، أنه “مع حكومة معطَّلة في ظل الخضات والأزمات المتناسلة والتي تفرِّخ يومياً بظل الوضع السياسي القائم، لا سقف لارتفاع سعر الدولار ولا قعر لانهيار الليرة. علماً أن السياسة المتبَّعة بالتوافق بين السلطة والمصرف المركزي، بعدما أخذوا أموال المودعين وهم عاجزون عن ردِّها بالدولار، فقاموا باللجوء إلى طبع الليرة لتسييل الودائع بالدولار، بالليرة، هذا لوحده يؤدي إلى انهيار قيمة الليرة أكثر وارتفاع معدلات التضخم، حتى من دون خضات سياسية”، معتبراً أن “الحل في بلد وضعه تعيس كلبنان، يكمن في إنشاء مجلس للنقد أو ما يعرف بـcurrency board، وإلا فالدولار سيواصل ارتفاعه في السوق السوداء بلا سقف”.
أي عملية نسخ من دون ذكر المصدر تعرض صاحبها للملاحقة القانونية