إستقلال قيد الاحتلال… غابت العنزة وحلَّت الدويلة

حجم الخط



كتبت فيرا بو منصف في “المسيرة” – العدد 1722

إستقلال قيد الاحتلال…

غابت العنزة وحلَّت الدويلة… سنقاوم!​

عيد الإستقلال. عيد؟ لنَقُل ذكرى. ذكرى؟ مش عيب نقول هيك؟ طيب هي محطة مشعّة في تاريخ نضال لبنان، هكذا يكتبون في كتب التاريخ. نحن غير كل الناس وغير كل البلدان. نحن نحتفل بذكرى الإستقلال الأول، وهو العيد الرسمي، الإستقلال الثاني، الذي لم يُدرج بعد على لائحة الأعياد الرسمية، وحتى لم يُكتب بعد في كتب التاريخ، ونتوثب ما أحلانا بكل مآسينا وشجاعتنا، على الإستقلال الثالث، شو رأيك ستي؟!

الإستقلال. هلّي ع الريح يا رايتنا العالييّ. ويتصّدر وجه فيروز وأناقتها البسيطة، شاشة تلفزيون لبنان. بالأبيض والأسود، من زمن الستينات بلكي، في يوم تلفزيوني طويل لم يكن ليحصل إلا يوم عيد الإستقلال، ويكون عيدنا مضاعفاً، أولاً عطلة مدرسية تأتي غالبًا في منتصف الأسبوع، وثانيًا والأهم، نتسمّر منذ الصباح الى شاشة التلفزيون نحضر ما لذ وطاب لنا من برامج، وأحلاها على الإطلاق بعد العرض العسكري طبعًا، وأغاني فيروز وصباح، فيلم سفر برلك لفيروز والأخوين رحباني..

في غمرة الأغاني الوطنية يمر مشهد إستثنائي لا أنساه، ولم نفهمه حتى بلغنا مرحلة الصبا. إستعراض عسكري مُستعاد عشرات المرات على الأقل، من زمن الرئيس بشارة الخوري، ويتصدّر العرض عنزة بيضاء تتقدم  بثقة بالغة بالنفس، الأحصنة والدبابات والسيارات العسكرية! وفهمت لاحقاً أن هذه العنزة ليست إلا رمزًا للعناد!

لم تنفع صلاتنا البريئة في ذاك الزمن في ردع الحرب، ولم ينفع الإستقلال الأول عن الإنتداب الفرنسي الذي تحوّل الى يوم وطني، في إرساء السلام المنشود للبنان. كان إستقلالاً هشًا بحسب ما أظهرت الأيام، ومن بعده اندلعت ثورة ال1958 التي كادت أن تؤدي الى إستقالة الرئيس كميل شمعون، ومن ثم وبعدما عرف لبنان ذروة استقراره وازدهاره في الستينات، إندلعت فيه أسوأ حرب في العام 1975 بعدما تحوّلت أرضه الى أرض مستباحة للمنظمات الفلسطينية المسلحة، وحوّّل  حافظ الأسد لبنان الى أرض النار والبارود وانتشرت المجازر المتنقلة فوق أراضيه، وانقسم اللبنانيون بشكل عامودي حاد، وصرنا مسلمين ومسيحيين كل في جهة.

كنا كبرنا وصرنا نعرف من كانوا الكتائب ومن هم الجبهة اللبنانية، ومن هم المقاومون الأحرار الشجعان الذين قاوموا المخارز المتنقلة في جهات لبنان الأربع، وكنا نبحث عن إستقلال ما، عن عنزة عنيدة ما، تبخرت في دخان الحروب ونهر الدماء، عن أمن ما، سلام ما، دولة ما تسأل عنا، ولا تلاحقنا، دولة تحترم حقوقنا ولا تضطهدنا. دخل الإحتلال السوري وصارت الجمهورية أسيرة العملاء والضباط الغرباء الذين يملون إرادتهم بالقتل والترهيب على الناس، وصار الإستقلال ذكرى بعيدة بعيدة نحتفل بها إسميًا وبخجل منها كي لا نقول إننا نخونها علنا ولا نسلّم عليها كلما حان 22 تشرين ثاني ما…

لم يعد يوم الإستقلال يوم تلفزيوني طويل، بعدما احتل التلفزيون مساحات حياتنا 24 على 24، فقدنا دهشة الأيام البريئة مع الإستقلال، وصرنا رهائن الإحتلال السوري البشع. جاء البشير، قاوم الأبطال الغزاة في الأشرفية وزحلة، وإذ بغمرة أخبار بطولات المقاومين في زحلة، تكرر في بيتنا مشهد غريب، هرعت ستي الى صمدتها الصامدة منذ زمنها العتيق، سحبت المنديل عن شعرها الأبيض المعقوص الى الخلف، وطلبت منا أن نركع ونصلي «صلوا للشباب يا ستي حتى العدرا تحميهن». لوهلة طار الزمن الى الخلف، الى لحظة مماثلة، مع الفارق أني كنت أعرف لمن أصلّي من قلب قلبي. مرَّت الأيام ثقيلة بالمواجهات، إستشهد بشير، تناثر ما تبقى من وريقات الإستقلال المزعوم، في مهب الوجوه السود التي احتلتنا. تنقلت الجبهات في لبنان كافة، ومع كل جبهة كان الموت يزهر والإستقلال يتناثر.

«دخلك ستي بعدا الحرب ولعانة؟» سألتني وهي ترمش على آخر أيامها، وكان آخر عرض عسكري تحضره في ذكرى الإستقلال، «بعدا يا ستي وشبابنا أو ع الجبهات أو بالحبوسة» أجبتها بمرارة. «تعي نصلي على نيّتن» ومع كل حبة أبانا كان يسقط لنا شاب هناك أو هنالك، ومع طقطقة كل حبّة سلام عليكي يا مريم، قرقع ما هو أفظع بكثير في لبنان، حين تفجّرت الكنسية بمسيحها في سيدة النجاة.

إعتُقل المناضلون وعلى رأسهم سمير جعجع، وصار ما يُسمّى «الإستقلال»، حكاية منسيَّة في أرض مزروعة بشوك الإحتلال والعملاء، في أرض لم تصمد حتى الساعة إلا بفضل الدماء التي روت ذاك التراب المقدّس. وإذ وبغمرة اليأس والإضطهاد والملاحقات، طلع صوت حر مخترقاً ذل الإستسلام، صوت كأنه انهال من السماء مباشرة، صوت البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير، وأطلق أولى شرارات ثورة الأرز في بيان المطارنة الموارنة الشهير في 20 أيلول 2000.

26 نيسان 2005، تم جلاء الإحتلال السوري عن لبنان وتحقق الإستقلال الثاني. لم نصدق المشهد. أشهد أني شاهدتهم يأفلون وذل العالم يتآكلهم. رميناهم بالحجارة واللعنات، راقبنا أفولهم الذليل غير مصدقين، وذهبنا الى ساحات الحرية نحتفل بالإنتصار بالإستقلال الثاني. جنَّت بنا الساحات، وما عدنا نحضر الإحتفالات بذكرى الإستقلال الأول. اعتبرنا أنه لا يعنينا لأنه لم يأتِ إلينا إلا بالويلات وبالمزيد من الإحتلالات، لم نكن نعرف ونحن في ذروة النصر والفرح، أن ثمة أسوأ بعد، في انتظارنا. وفي سجلاتنا الخاصة كتبنا، بعدما رفضت الدولة أن تكتب حتى اللحظة، الحدث الكبير في كتب التاريخ، بأن الإستقلال الثاني أُنجز، وكنا نظن أنه تبقى لنا بعض التفاصيل الصغيرة لاستعادة الدولة والجمهورية القوية ولكن…

وذات 22 تشرين ثاني، وأنا أستمع الى وثائقي عن إستقلال لبنان، إلتفتّ الى صورة ستي، رأيتها تبتسم ساخرة «ليكي شو كذابين يا ستي لو في إستقلال ما كانوا عم يقتلوا هالناس ورا بعضن»!! أكاد أقسم أني سمعتها تحادثني، وكان ثوار ونواب وضباط  من 14 آذار يقتلون تباعًا، وينهال موتهم أشواكاً في خاصرة لبنان «المستقل» نظريا كما اكتشفنا لاحقاً. كانت الدويلة بدأت تحفر أنيابها بعنف في جسم الدولة، وأول ضحاياها الرئيس رفيق الحريري ومن بعده كرّت سبحة الإغتيالات، ومن جديد صار الأحرار طرائد القتلة في كل الإتجاهات.

وعدنا بالسراج والفتيل نبحث عن الإستقلال، عن حلم غير ملموس، وكلما اقتربنا منه تحوّل الى سراب في صحراء وينك؟! أين ذاك الإستقلال الثاني الذي من أجله اغتيل جبران التويني ووسام الحسن وسمير قصير ووسام عيد وغيرهم وغيرهم؟!. جرجرتنا الأيام الى حروب وحروب وحروب عنوانها غالبًا «لو كنت أعلم». صراخها غالبًا «أعلن 7 أيار يومًا مجيدًا في تاريخ المقاومة». تهديدها العالي دائمًا «بتعرفونا وما تجربونا»، حرب تموز، حرب الدواعش، حرب نهر البارد، والدويلة تطبق أكثر فأكثر على الدولة، ونحن نقاوم. صارت المقاومة في السياسة، لا نريد حربًا، لا نريد دماءً، لا نريد احتلالاً، نريد جيشًا قويًا يدافع عنا، نريد وطنًا، إستقلالاً، جمهورية قوية فعلية، نريد وطن الرسالة وليس دويلة السلاح.

إحتلت الدويلة الدولة، إحتل عهد الفساد مقدرات الجمهورية، غرقنا في السلاح والإنهيارات والتهريب بالجملة والمفرق، غرقنا في العتمة الشاملة، في سلطة تتماهى كليًا مع سلاح الدويلة، وصار لبنان أرضا سائبة، محتلة منكوبة منهوبة، ونحن نقاوم ونقاوم لأجل الإستقلال الثالث! طيب كم إستقلال بعد يجب أن نعيش ونقاوم لنصل الى تلك الجمهورية الحلم؟!

وأنا أراقب ما حصل مع أهالي عين الرمانة، وهم يقاومون غزاة من نوع آخر، رأيت أبطالاً بكل ما للكلمة من معنى. في اليوم التالي صعد حسن نصرالله الى شاشة البلازما إياها، ورفع إصبعه مهددا «قعدوا عاقلين وتأدبوا عندي 100 ألف مقاتل»، وها نحن أربعة ملايين لبناني غالبيتهم من الشعب العزّل، نقاوم مخرز الإحتلال الإيراني بالحق، بإيماننا بمفهوم الدولة، وبأجسادنا حين يدعو داعٍ، لنحقق الإستقلال الثالث، ونصل الى جمهوريتنا القوية. طيب في ذكرى أي إستقلال سنحتفل، الأول، الثاني أم الثالث الذي لن يحصل ما لم نحسن إختيار نوابنا؟؟

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل