بدايةً، لا بدّ من تحديدٍ مُجملٍ لما هو التاريخ، وما يُسَجِّلُ في دفَّتَيه من مُصطَفياتٍ تعلقُ في أذهان الناس، وتُحفَظ في ذاكرتهم، فتبقى للعِلمِ وللعِبرة. وذلك بمعزلٍ عن الإشارة الى مغالطِ المؤرّخين كما وردت في مقدّمة ابن خلدون مؤسِّس عِلم الاجتماع.
التاريخُ هو صفحةُ الكَون، وتذكرةُ افتتاح الزّمن، رافقَ الأيام منذ نشأتها ولا يزال، وهو وثيقةُ الوقائع، ومٌدَوَّنةُ تسلسلِ التطوّر في حياة الشّعوب. وقد أجمعَ المؤرِّخون على تصنيف الأحداث والشخصيّات في التاريخ، تِبعاً للأهميّة والتّأثير، سلباً أم إيجاباً. لذا، بِتنا نقرأ عن حدثٍ تاريخيّ مهمّ، وكذلك، عن خطأٍ تاريخيّ نتائجُهُ فادحة. من هنا، فالتاريخُ لا يغفلُ عن شيء، ولا يُهملُ واقعة، مهما كانت هامشيّة. لقد تحدّث عن الحروب وآثارها الكارثيّة، كما دوَّنَ انبلاجَ فجر عصور التّنوير، والانتقال من الانحطاط والتخلّف، الى زمنِ النهضةِ، والدولةِ، وحقوق الإنسان.
عندَنا، ينقسمُ الذين كتبَ عنهم التاريخ، قديماً، وما وسيكتب، لاحقاً، الى ثلاثِ فئات، ويسري عليهم ما تتّصف به الألوانُ: الأبيض، والأَسوَد، والرّمادي. فبُنياتُ هذه الألوان لا تتغيّر، وكذلك، ما تحملُ من صَبغاتٍ هي نزيلةُ الثَّباتِ فلا يحولُ عليها الحَولُ، كما يقولُ ” ياقوتُ الحَمويّ “. فإنصافاً للحقيقة، وللبنان، وتأكيداً على صدقيّة التاريخ بالذّات، لن نتطرَّقَ الى الأسماءِ بل الى سلوكِ الذين تداولوا على سُدَّةِ المسؤوليّة الوطنيّة، وانعكاسِ هذا السّلوكِ على نَفَسِ الوطن، وذلك، بموضوعيّةٍ وبدونِ تَحامُلٍ أو فِئَويّة، لتكونَ الوطنيّةُ، كانتماءٍ وولاءٍ وحِسٍّ صادقٍ، هي مِعيارَ التَّصنيف.
الأبيضُ يعني شعاعَ النّور، أو الإشراقَ النّاصع، أو النّقاءَ المُنَزَّه عن العيوب، ويطابقُ ذَوي السّيرةِ المُصانةِ من الشوائبِ، فلا يفتنُهم إلّا طقسُ الخير. وقد برزَ الكثيرون مِمَّن سارَ مرورُهم مِسيرَ الأمثال، في تاريخ لبنان، قديمِه وحديثِه، فسَما بهم زمنُهم إذ تطلَّعوا الى وثبةٍ طليعيّةٍ لبلدِهم الذي يرزحُ تحت أعباءِ المِحَن، يحملون معهم مشروعَ قيامِ الدولةِ في غَمرةِ التآمرِ، والخطر، ونيّاتِ الاستعمار والتسلّط. هؤلاءِ عملوا لكي يكتملَ سِفرُ تكوين لبنان السيّد، الذي يعصى على العَتمِ، فلبنان، معهم، مشرَّعٌ على الترقّي، متطلِّعٌ الى النموِّ، والنّهوض، والحضارة، حفظوا معجمَهُ مقطَعاً بعدَ مَقطع، وبجرأةٍ غيرِ مسبوقةٍ وقفوا مَزهوّين ليعلنوا أنّ لبنان هو رسالةُ الحريّة الى الدّنيا. وقد حشدوا مواجهةً عملاقةً كغَضَبِ فينيقيا، ليعتِقوا الهويّةَ من العَزل، وبدَمِهم سطّروا أجملَ حكاية الوطن، أي ثورة العنفوان الذي أرغمَ العالَمَ على الاعتراف بلبنانَ حيثيّةً ملتصقةً بحتميّةِ الوجودِ الحرّ.
الأَسوَدُ يعني العتمةَ الشّنيعة، أو الظّلامَ المذموم، وقد وصفَ العربُ العدوَّ بأنّه أَسوَدُ الكَبِد، ويطابقُ هذا اللّون ذوي السّمعةِ الملوَّثة، فهم مهيؤون للفسادِ والمَكر واغتيالِ القِيَم. وقد توغّلَ كثيرون في بشاعةِ الفساد، وفي انحطاطِ الأخلاقِ نهباً، وصفقات، وفي تسطيحِ فكرة الدولة، وخداعِ الناس زوراً بخدمةِ مصالحه، ما مثَّلَ انهياراً للسيادة. وكذلك، أمعنوا في سَطوٍ على مقدّرات الوطن والشّعب، ما أحبطَ أملَ الأجيالِ بمستقبلهم. هؤلاء ” القَوّادون ” الخائبون نهشوا جسدَ الحلمِ وحوّلوه الى كابوس، بتبعيّتِهم، وخيانتهم، وتقويضهم للكرامةِ والشّرف، وبخضوعهم للأوصياءِ الذين سلّموهم الوطنَ مستعمرةً، فحكموه كغزاةٍ ولصوص. وقد تمادوا في سلوكهم التّنكيلي حتى بات الوطنُ مهشَّمَ الظلال، باهتَ القيمة، فهم يصدرون عن ترّهاتٍ، ويأتون موبقاتٍ أقلّها الابتزاز والاختلاس والرّشوة، مشكِّلين أخطبوطيّةً مافيَويّة هي الوباءُ الحقيقيّ لإجهاض قيام الوطنِ، ومشروع الدولة.
الرّمادي يعني التَّفاوتَ بين الأبيضِ والأسوَد، فلا هو هذا، ولا هو ذاك، ما يعني، تماماً، عدمَ الوضوح، والتردّد، والعزلة، ويطابقُ ذوي الانكفاء، وكأنّهم ما كانوا. هؤلاءِ، موسومونَ بِشِحٍّ في النّبرة، وبضبابيّةٍ في الحضور، مثَلُهم كمثَلِ مكتومي القَيد، يلزمون العنوانَ التّافهَ التّالي: “مَنْ لا يَعمل، لا يُخطِئ”. لكنّهم لا يدرون أنّهم بتَواريهم عن السّاحة، وخَرَسِهم في الموقف، يُنتِجون ضرراً وخطراً هما من الذّنوب الوطنيّة الكبيرة، إذ تَجثمُ على الدولةِ، بذلك، مشاهدُ الرّعب، وشرعةُ قايين، والإجرامُ الهمجيّ، وتسودُ ثقافةُ السّكاكين.
إنّ غرفةَ عمليّات التاريخ ترصدُ، وبوضوح، مَن كان قَيِّماً على مجتمع الغابِ، وعلى سيرةِ الاغتيال المُدَمِّرِ للوطن، وعلى طوفانِ الدمِّ والعنف، وهو معروفُ الهويّةِ والعنوان، كما ترصد، أيضاً، مَنْ كلَّلَ جبينَه بالعزّةِ، وصانَ إرادةَ الحياة، واصطبغَ نضالُه الوطنيّ بطَعمِ العنفوانِ والكرامة. وبالرَّغمِ من إرادةِ قتلِنا التي ينتهجها جماعةُ “السَّواد”، نُعلنُ أنّنا نرفضُ محاولةَ ردِّنا الى قرونِ الظّلام، وإجبارِنا على الانفصال عن ترانيم الحريّة، وسنكتبُ، كما أبطالُ ” البَياض ” المُمَجَّدون الأَصفياء، وبروحٍ جهاديّة، صفحاتٍ مشرقاتٍ تخلِّدُ وجودَنا عبرَ الزّمن.