2021 الأسوَأ إقتصاديًا

حجم الخط

كتب سيمون سمعان في “المسيرة” – العدد 1723

2021 الأسوَأ إقتصاديًا

أزمات وانهيارات والحلول الناجعة مرفوضة

 

ربما أول ما يتبادر إلى الذهن عندما ننصرف إلى الكتابة في اقتصاد لبنان 2021، سؤال: عمّاذا نكتب ومن أين نبدأ؟… في سنوات العز، كان يُضطر الباحث في هذه المواضيع إلى تقسيمها قطاعات ومشاريع، فيأخذ كلٌّ منها حقَّه في التقييم والسرد والخلاصات. أما في السنوات العجاف الأخيرة وبعدما تساقطت كل الأرقام على الأرض، لا سيما خلال الأشهر الـ12 المنصرمة، فصارت مهمّة محفوفة بمشقة البحث عن مؤشر يحفّزك على العمل ويمنحك الأمل بأن النهوض من الكبوات ليس مستحيلًا. لكن مباعث الإحباط تلك أنه في الأزمات المألوفة إن تعثّرت المصارف تُعِينها الرساميل وتنقذها خطط حكومية رشيدة. وإن تعثرت الصناعة قد لا تتعثّر التجارة. وإنَّ اضطربات القطاعات تنعشها التحويلات. أما ما حصل في لبنان خلال العام المنقضي أن القطاعات سقطت كأحجار الدومينو، والحكومات إما مشلولة وإما مكبّلة. فيما تعاونت السياسة والسلاح على ضرب أي مبادرة خارجية قد تحيي أملًا بالإنقاذ، وأخذت بطريقها ما كانت تؤمّنه تحويلات المغتربين من إنعاش للوضعين المالي والمعيشي. حتى أنه لم يُترَك للبناني تدبير أمره بنفسه فسُدّت السبل وأغلقت الأبواب.د

صنف البنك الدولي ما يعيشه لبنان حاليا بأسوأ 3 أزمات مرت على العالم بعد تشيلي وإسبانيا، وفي حين احتاجت تشيلي إلى 16 عامًا للتعافي من انهيارها عام 1926، وإسبانيا بعد حربها الأهلية (1936-1939) استغرق تعافيها 26 عاما، قدر البنك أن لبنان قد يستغرق من 12 إلى 19 عامًا للتعافي. هناك أمثلة أخرى حديثة منها اليونان وقبرص خلال العقد الماضي حيث انهار قطاعا المصارف والعقارات. واضطرت الحكومة الأولى بعد الأزمة في اليونان إلى اتخاذ إجراءات موجعة لكنها سلكت طريق التعافي والنمو.

المسألة في لبنان بحسب الإقتصاديين، أن الأزمة المالية المعيشية ليست إقتصادية المنشأ، بل نتيجة تشابك عوامل سياسية وأمنية وسيادية وبنيوية وخلل فاضح في إدارة الدولة. وهذا يعني برأيهم أن الحلول الكلاسيكية الإقتصادية الصرف غير مناسبة ولا تحل المشكلة. ويعتبرون أن أي حل يجب أن يبدأ من الخلل الأساسي في إدارة الدولة تدرُّجًا حتى آخر الأسباب لتكوين الحل.

 

عام الكوارث والإقفالات

فضلا عن العوامل الكثيرة التي أدت إلى انهيار الوضع المعيشي، دخل لبنان منذ مطلع العام الحالي في فترة إقفال تام امتدت من منتصف كانون الثاني حتى الأول من شباط، في محاولة لاحتواء تفشي فيروس كورونا، تزامنا مع عدم قدرة المستشفيات على قبول حالات جديدة. وكانت حال التفشي تلك بلغت ذروتها بعد فترة عيدي الميلاد ورأس السنة. هذه الحال ضربت في اتجاهين: ضغط هائل على القطاع الطبي والفرق العاملة صحيًّا ولوجستيًّا، وزيادة خسائر القطاعات الأكثر تأثرا بالإقفال كالمطاعم والمقاهي والفنادق. وبالفعل راح العديد منها خلال العام يقفل أبوابه تباعًا حتى فاقت الإقفالات نسبة الـ35 في المئة.

هناك مؤسسات وشركات في قطاعات أخرى أقفلت مثل العقارات والصناعة التي تستورد المواد الأولية وقطع الصيانة وغيره بالدولار وتبيع منتجاتها في السوق المحلي بالليرة اللبنانية ما أوقعها في خسائر حالت دون استمرار التشغيل. حتى أن هناك مستشفيات أقفلت وصيدليات بنسبة أكبر، وفروع لمصارف، وغيرها من المؤسسات التي تشكّل عماد النشاط الإقتصادي. هذه الإقفالات رفعت نسبة البطالة إلى حدها الأقصى، وهي بدورها رفعت نسبة الهجرة بأعداد لم يشهد لبنان مثيلا لها إلا مرتين في التاريخ الحديث، في أواسط القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. السيّئ في الأمر أن الصناعات التي تهاجر لا تعود بسهولة، والأفراد الذين يهاجرون هم في المجمل الأكثر كفاءة وتخصّصًا في المجتمع، ما يحرم البلد من عناصر إنهاضه عندما تزول أسباب التردّي القائمة حاليًا وتبدأ ورشة البناء.

في بداية العام 2021 كان الدولار الأميركي يراوح في حدود 8.500 ليرة. وسجل خلال العام مسيرة صعود كبيرة جعلته يتخطّى عتبة الـ 25 ألف ليرة. هذا الإنهيار للعملة الوطنية قاد معه كل القطاعات إلى أزمات متعاظمة. ونظرا لتراجع إحتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة بدأت مسيرة رفع الدعم شيئا فشيئا تزيد مآسي اللبنانيين، خصوصًا في السلع الأساسية مثل الدواء والمحروقات والمواد الغذائية. هذه الأزمات طبعت العام بظاهرة ربما شهد الناس مثيلا لبعض جوانبها في العامين 1988 و1989 من طوابير على المحطات والأفران، ولم يشهدوا مثيلا لجوانب أخرى كفقدان الأدوية وبعض السلع الأساسية. ومع أن المسؤولين على مختلف المستويات كرروا التأكيد أنه لن يتم رفع الدعم قبل إقرار البطاقة التمويلية، إلا أن الوعود لم تختلف عن سابقاتها ولا الظروف. فارتفاع سعر الدولار بدون خطة رعاية إجتماعية رفع سعر صفيحة البنزين إلى نصف الحد الأدنى للأجور وهذا ما لم يحصل سابقا قط. وكذلك المازوت والغاز والخبز والنقل واشتراكات المولدات الخاصة، دافعة بما تخطى نصف اللبنانيين إلى تحت خط الفقر.

وقد حذرت منظمة «اليونيسف» من أنه «في ظلِّ عدم وجود ضوء في الأفق يوحي باقترابِ إيجاد الحلول للأزمة اللبنانية، يشتدّ تأثير تلك الأزمة على الأطفال في شكلٍ تدريجي، حيث أظهر إستطلاع جديد إرتفاعًا في عدد الأطفال الذين يعانون الجوع، والذين اضطرّوا للعمل لإعالة أسرهم، والأطفال الذين لم يتلقّوا الرعاية الصحية التي كانوا في أمسّ الحاجة إليها».

ولفتت المنظمة إلى أن «المعطيات تشير إلى تدهور هائل في الظروف المعيشية على مدى الأشهر الستة الماضية (النصف الثاني من العام 2021)، حيث أن أكثر من نصف الأسر تخطّى طفل واحد لديها على الأقل وجبة طعام في شهر أيلول الماضي، في حين كانت النسبة تعادل 37 بالمئة في نيسان. وقد أفادت 30 في المئة من الأسر التي شملها الإستطلاع بخفض نفقات التعليم بعد أن كانت نسبة تلك الأسر 26 في المئة في نيسان الماضي».

وأكدت أنه «في مواجهة التضخم الهائل، وتزايد الفقر، وندرة الوظائف، إضطرّت 40 في المئة من الأسر على بيع الأدوات المنزلية والأثاث (بنسبة قاربت 33 في المئة)، وكان على 7 من كل 10 أسر شراء الطعام من خلال مراكمة الفواتير غير المدفوعة أو عبر الإقتراض المباشر لشراء الطعام، مقارنة بنسبة 6 من كل 10 أسر في شهر نيسان 2021».

 

مظاهر بؤس وغياب الحلول

في بداية العام،أكد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أنه «لن يتم تعويم عملة البلاد إذا لم يجر التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي». وأضاف أنه «لابد من خفض عجز الموازنة وإعادة التفاوض مع الدائنين والحصول على سيولة جديدة». وفي الفترة نفسها أعلن المكتب الإعلامي في وزارة المالية في بيان، أن «مجلس أمناء البنك الدولي أعطى موافقته بدعم أكثرية الدول على اتفاقية قرض شبكة الأمان الاجتماعي للبنان والبالغة قيمته 246 مليون دولار». لكن شيئا من هذا أو ذاك لم تظهر نتائجه الإيجابية المؤثرة خلال العام، ولم تُصلح الإجراءات القليلة التي اتُخِذت ما أفسده دهرٌ من الفساد والهدروالسياسات العوجاء.

فمعهد التمويل الدولي كان افترض في بداية العام أنّ تأليف حكومة من خبراء مستقلين في وقت قريب والبدء في تنفيذ الإصلاحات والتوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي وإطلاق العنان للمساعدات المالية الخارجية، سيؤدي الى انتعاش الإقتصاد تدريجًا، والى تحسّن سعر الصرف في السوق الموازية إلى 5500 ليرة مقابل الدولار، ما سيعوّض الضغوط التضخمية الإضافية الناجمة عن رفع الدعم. ومع ذلك لم تتشكل حكومة على مدى أشهر حتى اعتذار الحريري. وعندما تشكلت مع ميقاتي تم إبطال مفعولها. فلم يستجب من في السلطة لنداءات المؤسسات الدولية ولصرخات الناس، بل استمرّوا في ما يمارسونه من أنانية وتقديم للمشاريع الفئوية على المشروع الوطني.

وعليه، رأى كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد التمويل الدولي غربيس ايراديان، «أنّ على لبنان تنفيذ إصلاحات كبيرة لتجنّب مصير الدول الفاشلة، مثل فنزويلا، متوقعاً أن يَنكمِش الإقتصاد اللبناني بنسبة تزيد ععلى 26.5 في المئة في العام 2021، مُترافقًا مع انخفاض حاد في سعر الصرف في السوق الموازية، ما سيقلّص الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من النصف بالدولار الأميركي». واعتبر «أنّ قيمة الرواتب والأجور انخفضت بشكل حاد بعد أن سَرّع انهيار سعر الصرف في السوق السوداء وفي المصارف ارتفاع معدل التضخّم وصولاً الى 137 في المئة على أساس سنوي لغاية تشرين الأول الماضي، في حين زاد حجم السيولة النقدية المتداولة في السوق أكثر من 3 أضعاف منذ بداية العام لغاية تشرين الثاني، كما زادت معدلات البطالة والفقر بأكثر من الضعف، ما حَفّز الهجرة الجماعية للمثقفين والمهنيين».

سياسة الإعتماد على الإحتياطي الإلزامي للإنفاق بهدف تأجيل الإنفجار على حساب ودائع الناس بدل العمل على حل الأزمة، نال حيّزًا مهمًّا من العام 2021 وسجالات واتهامات من رئاسة الجمهورية وحاكم المركزي إلى السياسيين والمصرفيين والمودعين. وفي هذا الإطار قال رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، «ليس من حق أي مسؤول في الدولة مهما علا شأنه، أكان رئيسا للجمهورية، أم رئيسا للحكومة، أم وزيرا للمالية، أم حاكما للمصرف المركزي، أن يفكِّر مجرد تفكير باستعمال ما تبقى من مقتنيات ومدخرات المواطنين. وأي محاولة للمس بالاحتياطي الإلزامي ستعرِّض مرتكبيها مهما علا شأنهم للملاحقة الجزائية الحقة».

هذا الإحتياطي حاول بعض المسؤولين استعماله في عملية دعم بعض السلع وخصوصًا المحروقات. لكن هذا الأمر فتح الباب على عمليات تهريب واسعة واحتكار للإفادة من فرق السعر بين لبنان وسوريا، أو للبيع في السوق السوداء. فلجأت الحكومة إلى التقنين في الكميات المسلّمة للمحطات بدل منع التهريب، ما خلق أزمة في السوق غير مسبوقة وطوابير تمتد لمئات السيارات، ومنهم من كانوا يركنون سياراتهم ليلًا ليضمنوا وصولهم إلى المحطة في اليوم التالي. وتعقيبًا على ذلك كانت مناشدات عديدة من مسؤولين وخبراء بضرورة رفع الدعم لإنهاء الأزمة ومعاناة الناس وإنقاذهم من الذل الذي لم يشهدوا مثيلا له من قبل، لدرجة أنه سقط قتلى وجرحى في حوادث وإشكالات متفرقة على محطات الوقود.

مشهد الطوابير لم يقتصر على المحطات في العام المنقضي، بل عرفته الأفران أيضًا والسوبرماركت التي بدورها شهدت نزاعات على غالون زيت أو كيس سكر أو مجمع حليب. وثمّة من علّق يومها بأن هناك العديد من المجتمعات الفقيرة لكنها تعيش بسلام محفوظة الكرامة، فلماذا أوصلنا الحاكمون إلى هذا الواقع المزري والأليم؟ نُهان في أبسط حقوقنا ونُذل في بديهيات حياتنا. حتى أن من لديهم المال باتوا عاجزين عن تأمين دواء أو بعض السلع بسبب فقدها من الأسواق، إما لعدم القدرة على الإستيراد أو لاحتكارها. وهناك العديد من السلع اللبنانية المدعومة ظهرت على الرفوف في غير بلد حول العالم.

استغل «حزب الله» هذه الأزمات وقال إنه سيستورد المازوت من إيران لسد حاجة السوق. وبعد نقاش وتجاذبات، وصلت كميات من المازوت من سوريا في أواسط أيلول وعبر المعابر غير الشرعية في خرق فاضح لسيادة الدولة، وبدأ توزيعها في السوق. غير أن الخطوة التي لاقت ترحيبًا من الفريق المؤيد لـ»حزب الله»، واجهتها في المقابل  انتقادات، وانتشر وسم #صهاريج_الذل رفضًا للمازوت الآتي «مبدئيا» من إيران، إذ إن كثرًا شككوا بمصدر المازوت لافتين إلى أنه ليس إلا الكميات التي هُرِّبت من لبنان إلى سوريا لتعود محمّلة بالتوظيف السياسي.وفي الواقع كون العملية لم تستمر أكثر من أسابيع قليلة أكّد أنها كانت مجرّد استعراض لا أكثر. فيما ظهر صمت حكومة نجيب ميقاتي كأنه موافقة على خرق السيادة والعقوبات والقرار الرسمي.

 

مشاريع لم ترَ النور

الكهرباء أم الأزمات، كان لها نصيبها الكبير في العام 2021. زاد التقنين إلى درجة الإنقطاع الكامل لفترات طويلة بعد نفاد المازوت والفيول المشغِّل لمعامل التوليد. حتى مولِّدات الإشتراك اتّبعت هي الأخرى نظام تقنين فغرق البلد بكلّيته في العتمة، وراحت المستشفيات تستغيث بعدما شكّل انقطاع الكهرباء خطرًا على المرضى. وبعد عشر سنوات من الإعتماد على البواخر التركية توقّفت هي الأخرى عن العمل وغادرت محمّلة بمليارات الدولارات التي أُنفقت عليها بما يفوق ثمنها، وبقي لبنان بلا كهرباء. هذا الواقع المزري في قطاع حيوي أظهر خصوصًا خلال العام المنقضي، حجم الفساد في هذا القطاع وسوء الإدارة على حساب الناس مالًا وصحةً وكرامة.

وسط هذه الأزمة تم طرح مشروع استجرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر كحلّ موقت لانقطاع الكهرباع ريثما يتم وضع خطة شامة ومتكاملة بالإتفاق مع صندوق النقد الدولي. وفي 8 أيلول اتفق وزراء الطاقة باجتماع رباعي في عمّان على إمداد بيروت بالغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر سوريا، بضوء أخضر أميركي، كرد غير مباشر على ناقلات الوقود من إيران. واستكمالا للخطوات الممهِّدة للمشروع، زار وفد رسمي حكومي لبناني سوريا لأول مرة منذ اندلاع النزاع قبل 10 سنوات، بهدف البحث في استجرار الطاقة والغاز من مصر والأردن عبر سوريا. لكن بعد مرور أقل من شهرين على الطرح تبيّن أن أمامه عقبات تقنية ومادية وسياسية تحول دون تنفيذه، فطوي إلى أجل غير محدد.

وفي 29 أيلول قرّر مجلس الوزراء في جلسة له، الموافقة على تكليف وزير المالية استقراض مبلغ 100 مليون دولار لزوم مؤسسة كهرباء لبنان لتأمين زيادة عدد ساعات التغذية وذلك في وقتٍ كانت مؤسسة كهرباء لبنان حذرت قبل أسبوعٍ من عتمةٍ شاملة أواخر أيلول بعد نفاد كامل مخزون المحروقات لديها. وشدد وزير الطاقة وليد فياض في مؤتمر صحافي على أن «همّنا اليوم تأمين ساعات تغذية إضافية لمواطنين ما عاد بمقدورهم تحمّل فاتورة المولدات الخاصة».وقال:إن «مؤسسة كهرباء لبنان في حاجة لمبلغ من 40 إلى 50 مليون دولار شهرياً للإنتاج بالإضافة إلى الفيول العراقي الذي يعطي من 3 إلى 4 ساعات تغذية». لكن العقدة في مسألة الكهرباء ليست تقنية أو حتى مالية لأن صندوق النقد جاهز للتمويل بشروط. المشكلة كما بات معلوما أن من شروط الصندوق رفع فاتورة الكهرباء 13 مرّة، والإستغناء عن المولدات الخاصة، وتفعيل الجباية ومنع التعديات على الشبكة. وهذه الشروط رفضها «حزب الله» لأنها تطال بيئته في شكل أساسي، وبرّر رفضه بأن الصندوق يتدخل في أمور تمس السيادة الوطنية فتوقّفَ التفاوض. ذاك التفاوض الذي يشمل شؤونا كثيرة غير الكهرباء تعثّر عند أكثر من منعطف حتى في ما يخص الأمور المعيشية والمالية الأخرى.

 

المحاسبة من المال إلى السياسة

تُعَد الأزمة الراهنة التي يشهدها لبنان الأخطر على مدى تاريخه المعاصر، فالمؤشرات الإقتصادية وانعكاساتها الإجتماعية الخطيرة لم يعرفها الوطن المنكوب حتى أثناء الحرب الأهلية التي استمرت نحو 15 عامًا. فالعام 2021 مضت منه تسعة أشهر والبلد بلا حكومة. وإذا كانت المجتمعات والدول لا تستطيع إدارة شؤونها بلا حكومة في الأوقات العادية، فكيف في حال وجود أزمة كالتي يعانيها لبنان؟ أما التباهي أمام الغرب بأننا نستطيع إدارة البلاد بلا موازنة، فلم يعكس إلا غرورًا باهتًا واستخفافًا بالبلد والناس. والنتيجة بدتواضحة منذ سنوات وإن كانت الأشهر الـ12 المنصرمة أكثر قساوة ودلالة على سوء الإدارة والفساد.

والواضح اليوم صعوبة إيجاد الحلول الكفيلة بوقف التدهور في مرحلة أولى، واستعادة التوازن في مرحلة ثانية. لكن يُجمِع الإقتصاديون على أن أسوأ ما في أزمة لبنان الإقتصادية والمالية ألّا حلول لها في الأفق تشي بتحسن الوضع في وقت قريب. ويوضحون أن العقدة ليست في غياب الحلول بل في رفض القوى المسيطرة على السلطة اعتماد أي منها لأنه يهدد مكانتها ومكتسباتها. ويعيدون التشديد ألّا حلول اقتصادية بمعزل عن السياسة. فالإقتصاد وإن كان يتطلب خبرة ودراية وجدية في إدارته ليكون مزدهرًا، إلا أن كل ذلك يحتاج إلى بيئة آمنة توفّر المناخ الضروري للنهوض وإلا عبثا نحاول. والواقع أن في لبنان لا إدارة جيدة للإقتصاد ولا بيئة سياسية مؤاتية ما دام المسؤولون يعيَّنون على المحسوبية وليس بحسب الكفاءة، وما دام قرار الدولة ليس في يدها وليس داخل حدودها.

ولذلك نجد أن المفاوضات مع صندوق النقد توقفت، والمساعدات الخارجية تعطلت. وما كان ينقص هذا الجو القاتم غير نشوب أزمة دبلوماسية مع الخليج حرمت لبنان من بعض ما كان يقتات عليه منعا للموت البطيء. ولم تُقر البطاقة التمويلية الموعودة ولا حتى الـ400 ألف ليرة دفعت للعائلات الأكثر فقرًا، ولا تم توفير برامج رعاية إجتماعية بل تُرك الأمر للأحزاب والجمعيات والمبادرات الفردية في تخلٍّ فاضح عن أبسط واجبات الدولة وأبسط حقوق الناس.

ولا حتى تعميم مصرف لبنان بدفع الودائع الدولارية بالعملة المودعة بها لاقى تجاوبا أو أعطى نتيجة نظرا لشروطه غير الواضحة. وبدل أن ينتهي العام ببعض الحلول أو بأمل موعود بها، انتهى برفع الدعم كليًّا عن المحروقات ما رفع سعر صفيحة البنزين إلى 318 ألف ليرة والمازوت إلى 321 ألفا وقارورة الغاز إلى 276 ألفا. فيما ارتفعت أسعار الأدوية، لا سيما أدوية الأمراض المزمنة، ما يقارب العشرة أضعاف، وسط بطالة واسعة وفقدان العملة الوطنية قدرتها الشرائية والأجور قيمتها الفعلية. ولم تفِ استعراضات القاضية عون في الكسر والخلع لأبواب شركة مكتف بالغرض لا ماليًا ولا دعائيًا. وانتهى المواطنون جميعهم خبراء محاسبة مالية لاستنباط ما يمكّنهم من دفع فواتير المولدات الخاصة والسكن والغذاء… وما إلى ذلك من أعباء بمدخول محدود. على أمل أن يتقنوا المحاسبة السياسية عندما يحين أوانها فيتم البناء من جديد في شكل سليم وعلى أسس صلبة.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل