كتبت “المسيرة” – العدد 1724
رحل قبل 34 عامًا
شارل مالك: الأحرار يقبلون الصلب وفي اليوم الثالث… يقومون
ليس في لبنان «الوطني» من مكان لمفكرين على طراز شارل مالك، يتجرأون على التفكير وعلى استشراف المستقبل، وعلى الإيمان بإطلاقية الإنسان وسموه على كل القضايا والمصائر والمسائل والحروب والنزاعات. بين لبنانه ولبنانهم مسار طويل وشاسع، بين لبنانهم العربي والوطني الملتزم قضايا محيطه حتى محو شخصيته وسحق إنسانه ولبنانه القائم على الإنسان الحر المتضامن مع كل إنسان في العالم أيًا كانت جنسيته وعقيدته ولونه، هوة كبيرة لا يمكن ردمها. لهذا كان الحل برأيهم أن يطمس فكره ويوضع حجر كبير على قبر طموحاته حتى لا تنبعث وتقلق أحلامهم بالسيطرة على الإنسان اللبناني.
من عايشوه وعرفوه عن قرب عشقوه، ولا يمكن لسامعهم إلا أن يعشقه بدوره. تسمعهم يتكلمون بشغف وإعجاب لا مثيل لهما عن رجل رؤيوي كان من الأوائل الذين فقهوا معنى لبنان ورسالته العالمية القائمة على التفاعل السلمي بين الحضارات. وفي حديث الى مجلة «المسيرة» صادر في العدد 949 بتاريخ 5 ـ 1 ـ 2004.
يقول الأباتي بولس نعمان إنه «فخور جدًا بأنني عشت تجربة الجبهة اللبنانية وتتلمذت، ولو بشكل غير مباشر، على يد الدكتور شارل مالك وغيره من العلماء والعمالقة الذين كوّنوا تلك المدرسة العارمة». أنطوان نجم يُخبر بفخر أنه كانت له جلسات فكرية كثيرًا ما امتدت حتى ساعات الفجر إستمع فيها الى ما يشبه نبؤات عما سيحل ـ وقد حلّ ـ بالمسيحيين وبالموارنة بشكل خاص.
بالحنين وبالإحترام نفسه يصف الأباتي نعمان شارل مالك ويتكلم عنه: «إنه إبن الكورة والضيعة والزيتون المتواضع والبسيط، وفي الوقت عينه العبقري والعالمي وصاحب فكر شمولي (Universel). قال لي مرة: تعلم كم أنني متعلق ببلدتي والزيتون وبتراثنا وتاريخنا غير ما أن تطير بي الطائرة حتى أشعر بأنني مواطن عالمي. حلّق شارل مالك في الفكر والفلسفة والتجريد الفكري، لكنه أيضًا أحب الأرض وسكانها. كانت لديه طاقة مميّزة في جمع الأرض والسماء، المحسوس وغير المحسوس، الأفقي والعامودي. أكثر ما أذكره أنني، في معظم المرات التي زرته بها في منزله، رأيته مستغرقاً في قراءة الكتاب المقدس، مأخوذ به. وأنا من القائلين إنه تمتع بروح نبوءة والأدلة على ذلك كثيرة، ولعل البرهان القاطع على هذا التقرير الذي أرسله الى الأمم المتحدة في نهاية الأربعينات، والذي حذر فيه من إسرائيل ومن تدهور الأوضاع في الشرق الأوسط، لكن العرب ظلموه من غير أن يؤدي ذلك الى التأثير على جرأته الفكرية. وأعتقد أنه أفضل لبناني على الإطلاق تمكن من فهم الولايات المتحدة وفهم مراميها. كان عنده إحترام كبير لقوتها وللمنهجية التي جمعت الأقليات ووحدتها في سبيل النهوض الأميركي، غير أن حسّه النقدي دفعه الى القول في أكثر من مرة لا تتكلوا على أميركا».
ويصف الأستاذ أنطوان نجم الدكتور شارل مالك بأنه كان يتمتع بروح نبوءة ورؤية واضحة بعيدة المدى، فيستذكر حديثاً ليليًا معه في مطلع الثمانينات وكانت المنطقة الشرقية آنذاك في أوج تماسكها وقوتها. في تلك الليلة، قال الدكتور مالك إن الموارنة ستحل بهم مصائب كبيرة لا طائل لهم على تحمّلها وسيتعرضون لأقسى أنواع التجارب والمحن حتى ظنوا أنهم انتهوا، ولكن الله سيعود ويتدخل لإنقاذهم «لأنه سيكلفهم بمهمة كبيرة». أما تلك المهمة الكبيرة، فأفصح عنها في مقالة طويلة نُشرت في مجلة «الفصول» في العام 1980، وقد أعادت «المسيرة» نشرها في عددها الصادر في 10/20/2003، وهي تحت عنوان «الموارنة والكثير المطلوب».
وفي هذه المقالة يعدد الدكتور مالك ما أُعطيَ للموارنة من الله وما يُطلب منهم. أعطاهم «هذا الجبل العظيم»، و»لبنان، شعبًا وتراثاً وقيمًا»، و»بلدًا مجتمعه حر وتعددي وبكركي»، و»طقسًا ليتورجيًا عظيمًا»، «الإرتباط الوثيق برومية»، و»تاريخًا موحّدًا، منفصلاً، قائمًا في حد ذاته، محدد المعالم»، و»ارتباطهم بالعالم السرياني الحي»، و»حيوية وخصبًا في العطاء عظيمين». وبعد أن يستعرض ما أُعطيَ للموارنة، يحدد الدكتور مالك الكثير المطلوب وأهم ما فيه أمران: «الإيمان المطلق بالحرية الكيانية الشخصية الإنسانية المسؤولة كأقدس شيء في الوجود»، والأمر الثاني «التأكد من أن لوجود الموارنة وبقائهم مغزى وسرًا عجيبين وتلمس هذا السر بتطلّع شغف، والتأكد من أن هذا السر الدفين لا ينكفئ على لبنان فحسب بل يتعداه الى أبعد وأعمق منه بكثير».
كان للدكتور شارل مالك تأثير كبير، مباشر أو غير مباشر، في خيارات الأب عفيف عسيران، وبعض آل المعلوف الذين اتجهوا الى الحياة الرهبانية، إضافة الى أنه كان رجلاً متجذرًا في إيمانه وملتزمًا تجاه كنيسته وشعبه. ويتذكر نجم بكثير من الخشوع والرهبة حديثاً ليليًا دار مع الراحل: «في إحدى الليالي كنا نعمل ونفكر في إحدى المسائل، قال لي فجأة: أنطوان عندي قلق كبير وخوف من أن يقول لي الرب ساعة أحضر أمامه: يا شارل لم تفعل ما فيه الكفاية من أجل المسيحيين في لبنان».
هذا غيض من فيض ما أتى به شارل مالك. وإذا كان المفكر الراحل قلقاً من أنه لم يقم بالكافي في سبيل شعبه، فما الذي يجب أن يشعر به الكثير من رجالات الفكر والسياسة اليوم؟ الإجابة حتمًا معروفة ولا داع لذكرها. ويبقى المهم الإستنارة بما أتاه شارل مالك وحذر منه وعمل في سبيله، وقد يكون جوهره أن حرية الإنسان في لبنان يجب أن تكون محور إهتمام ونضال وعمل الجميع. وفي ما يلي مقالة للدكتور شارل مالك عن الحرية تعكس بعض ما آمن به:
«… لبنان التراث هو الحرية والإحترام.
يوم عانى لبنان ما عاناه في الامم المتحدة لإثبات كرامة الإنسان، وحقوقه، وحرياته الأساسية، في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بصيغته الفريدة الرائعة، كانت أعماق الوجود اللبناني هي التي تنطق بأفواه ممثليه. إن قصة هذه المعاناة لم تُكتب بعد، وهي، في خفاياها وأسرارها الكيانية، لن تُكتب أبداً.
يبدأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كما يلي: «أما وأن الإعتراف بكرامة الإنسان المتأصلة في كيان أعضاء الأسرة البشرية جميعاً، وبحقوقهم المتساوية، التي لا انتزاع لها عنهم، إنما هو أساس الحرية والعدل والسلم في العالم…» وتقول مادته الأولى: «يولد البشر كلهم أحراراً، متساوين، في الكرامة وفي الحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الاخاء». والحق أنه لولا هذه الكرامة وهذه الحقوق، ولولا هذه الحرية وهذه الاخاء، ولولا هذا العقل وهذا الضمير، لما كان لبنان، ولا تمكن أن يتحدى الأزمنة والعصور حياة وديمومة.
هذا هو الذي قلناه، وأعلناه، وسجلناه أمام العالم بأسره، مراراً، وهذا ما عملنا على تجسيده أخيراً في هذه النصوص. وأؤكد لكم أن إحتفال العالم كل عام، في العاشر من كانون الأول، بذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو احتفال بعيد لبنان. العالم بأسره يعرف الصنيع اللبناني، ويشهد له في هذا اليوم، ونحن لم نجعله بعد، مع الأسف، في طليعة أعيادنا الوطنية الرسمية.
أعود الى الحرية والاحترام، فأقول :الحرية ليست فكرة أو عاطفة أو خيالاً، بل إن الحرية ليست أي شيء، ما لم تتجسد في الأحرار، الحرية هي الإنسان الكائن الحر. والإنسان الحر المسؤول هو أعظم وأهم مؤسسة في التراث اللبناني.
ففي قمة التراث اللبناني يوجد الإنسان الحر، إن هو وجد بالفعل. الحر لا يكذب ولا ينافق. الحر يعرف فضيلة الصمت. الحر لا يُغلب على أمره غوغائياً، ولا طموحياً، ولا شهوانياً، أما شهوة الحكم والتسلّط فأبعد ما تكون عنه. الحقد والنكاية، والبغضاء والنميمة، وصغار النفس، والدس والتآمر في الظلام، كل هذه يفهمها الأحرار تماماً حين تمر بهم، لكنهم يمرون من دون أن تترك فيهم أي أثر. الحر يخلق في كل لحظة، يخلق نفسه حراً.الأحرار يقسون على أنفسهم حتى يتفجر الخلق فيهم تفجيراً.
همّهم أن يرتفعوا الى ملأ الإشراف والخلق، وفي فعل الخلق ان يوجدوا.
وهم إذ يرمقون لحظة الخلق بصبر وطول أناة، يخلقون إن هي جاءت، وإن هي لم تجيء، يسجدون ويصلون.الأحرار يقبلون الصلب، وفي اليوم الثالث يقومون.
الأحرار لا يسألون عن الموت، ولا يهابون الحياة. يرحبون بالموت، إذا كان فيه الحياة، واذا اقتضت الحياة الحرة الشريفة موتاً، فانهم يحيونها.
همّهم أن يبقوا هم الأسياد، ليس على الآخرين، بل على كل ظلام وخسة في نفوسهم.
هل يضبطون أفكارهم، هل ينظمون تخيّلاتهم، هل يكبحون جماح عواطفهم، هل يلجمون ألسنتهم، هل يتحملون آلامهم، هل يقبلون أقدارهم، هل ينتقدون أنفسهم، تلك هموم الأحرار. الماضي لا يكبّلهم إلا بمقدار ما يكونون تائبين. والتوبة الصادقة تحررهم حتى من الماضي. تحررهم لأنها لا تنبع منهم. تحررهم لأنها من لدن الله.
يقتنصون الوجود لأن الوجود وجدهم قبل أن يجدوه. وجدهم وتربع فيهم، واستقر، واستوى. الأحرار لا يحللون، ويمحصون، ويرفضون، الأحرار يعجبون ويحبون.
الأحرار يُقرّون بالأفضال، ويعترفون بالمصادر. الأحرار يُعلنون الى من هم مدينون. إذا عنت الحرية ضرورة السقوط أصبح الحر عبدًا لما يسقط إليه.
أما الأحرار فيفسرون حريتهم بأنها الإبقاء على إمكان السقوط، من دون الوقوع بالسقوط بالفعل؟
الحر يعرف تماماً أن الوجود لا يتوقف عليه، بل على العكس، يعرف ويُقرّ بأن وجوده هو يتوقف على الوجود الحقيقي الموجود. الأحرار يعيشون في العالم، لكنهم ليسوا من هذا العالم. الحرية قبس متعالٍ آتٍ من فوق. الأحرار يُقرّون بما هو فوق، ويعترفون بمن هم متكلون عليه، ولذلك هم أحرار. الأحرار يعيشون، ويونعون مع الأحرار، من دون أن ينسخ بعضهم بعضاً، وإذا كان حر ما نسخة تامة طبق الأصل عن أي حر آخر، فهو عبد.
إنها الصداقة، والمشاركة، والمحبة، التي تعزز الحرية في الأحرار.
يفتش الأحرار عن الأحرار في كل زاوية من زوايا الكون، في الزمان وفي المكان، وحين يجد بعضهم بعضاً، أياً كانت فوارق اللغة، والعصر، والتراث، والجنس، والدين، فكأنهم وجدوا الله في وجوههم.
الوجود كله يحصر في النهاية في الإنسان الشخص الكائن الحر. وكل تراث لا ينهض على أحرار، ولا يخلق أحراراً، هو تراث عقيم. الإنسان الشخص الحر الكائن هو مؤسسة التراث الأولى، وكل مؤسسة أخرى إنما تنحدر منه، وتؤول إليه. هو أمل الوجود، وهو قبلة المستقبل. هو الذي يبرر كل ثقافة وكل تراث. وما لم تتمكن مؤسساتنا من خلق الإنسان الشخص المسؤول، فباطل التبجح بالحرية، وعبث القول بالتراث (…).
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]