نعيش الأمتار الأخيرة من العهد المفترض أنّه كان قويًّا. لذلك، النهضة الوطنيّة المطلوبة انعكست مفاعيلها واستحالت انحطاطا في المجالات كافّة، ليكملها الأوميكرون وانعكاساته في الميدان التربوي حيث ترك تضعضعاً في هذا المجال لن تنجلي مفاعيله حتّى سنين من بعد انتهاء الأزمة. أمّا سياسيّاً فيستكمل “حزب الله” اعتداءاته على السيادة اللبنانيّة على وقع دعوة فخامة الرئيس إلى طاولة حوار بين أفرقاء اللون الواحد. مع التأكيد على القفز فوق عجلة سير الدولة بتعطيل الحكومة المستمرّ.
لم تأتِ دعوة “حزب الله” لمهرجان خطابي في الضاحية الجنوبية في ذكرى تنفيذ السلطات السعوديّة حكم الإعدام في رجل الدين الشيعي “نمر باقر النمر” الذي أدين بتهم إرهابيّة دعوة بريئة من نوعها، بل أتت من ضمن سلسلة الاعتداءات السياديّة التي يمارسها “حزب الله” بطريقة ممنهجة وواضحة، من زيارات الحوثي وخالد مشعل وجمعيّة الوفاق البحرينيّة منذ قرابة الشهر، ناهيك عن الخطابات الناريّة ضدّ الملك والمملكة السعوديّة الأخيرة، وغيرها من هذه الزيارات والخطابات التي تضرب السيادة بعرض الحائط.
وإن دلّ ذلك على شيء فهو يرمي إلى أنّ النهج الذي يتّبعه “حزب الله” في هذه الإعتداءات آيل إلى التصعيد أملاً منه بأن يستطيع تفجير الوضع سياديّاً. أو بأقلّ تعديل الاستمرار بتعكير العلاقات اللبنانيّة العربيّة في محاولة منه لتطويق أيّ مبادرة حكوميّة قبل ولادتها. فبنهاية المطاف، هو نجح بتقويض السلطة التنفيذيّة مع ما تحمله من رمزيّة وبعد دينيَّين في المنطقة. ولعلّ ما يأمله الحزب نفسه أن يستطيع تحويل هذه التقنيّة السياسيّة الجديدة بعد نهج الديمقراطيّة التعطيليّة الذي نجح فيه، إلى مفتاح جديد لافتعال أزمة داخليّة في لبنان قد يستخدمها للإطاحة بأيّ تقدّم قد يتمّ التوصّل إليه في أيّ مجال كان، وقد تكون الانتخابات أحد هذه الملفات.
المطلوب اليوم من هذه السلطة أن تضع حدًّا لهذه الإعتداءات كلّها، لأنّها هي نفسها أي هذه المنظومة تعطّل الدّولة لاعتبارات وحسابات أهل البيت الدّاخلي. وأيّ حوار وطني هو مطلوب، لكن على القاعدة المؤسساتيّة. فحريٌّ بهذه السلطة المعطِّلة أن تفكّ أسر الحكومة والمجلس النيابي ليكون الحوار في مكانه الصحيح عوض أن يكون مسرحيّة فولكلوريّة هدفها التعويم السياسي من دون الوصول إلى أيّ نتيجة.
ويجب الإشارة في هذا السياق إلى أنّ مسرحيّة أخرى خاضها الفريق عينه من خلال التعطيل الحكومي تندرج في سياق الرسائل السياسيّة في الفريق نفسه المتوافق على التعطيل. من هنا، يبدو أنّ مرتا تبحث في أمور كثيرة فيما المطلوب هو واحد وهو: الرحيل. لا يريد اللبنانيّون أيّ حوار بين أهل البيت لتسوية خلافاتهم خارج المؤسّسات حتّى يدخل هؤلاء هذه المؤسسات من جديد بعد الاتّفاق في ما بينهم على طبيعة الصفقات الموعودة، لا سيّما في موضوع المحادثات مع البنك الدّولي.
إنّ ما يريده اللبنانيّون هو عمل مؤسّساتيّ حقّ يقوم على السير الطبيعي لعجلة المؤسّسات الدستوريّة من دون أيّ عرقلة للوصول إلى مرحلة الانتخابات النيابيّة التي تعتبر وحدها الطريقة الطبيعيّة لتجديد الحكم. من هنا، يُفْهَمُ الرفض الذي بادلت فيه القوات اللبنانيّة والمستقبل والاشتراكي هذه الدّعوات لأنّها، كما صار واضحاً، بين أهل البيت الواحد للتفاهم على المغانم. فيما تضييع المزيد من الفرص الدوليّة يعقّد أيّ فرص لأيّ حلول قد تنقذ ما تبقّى. لكن على ما يبدو أنّ هذه السلطة تتّبع النهج التدميري للوصول إلى هدفها الأساسي وهو تغيير وجه ووجهة البلد دستوريّاً بعدما نجحت بهذا التغيير ميدانيّاً على أرض الواقع. وذلك لا يتحقّق إلا بطريقتين:
– الحصول على أكثريّة برلمانيّة حقيقيّة تثبّت هذا الواقع دستوريّاً. وفي هذا السياق، نجحت القوى السياديّة بفرض الايقاع الانتخابي لا سيّما حزب القوّات اللبنانيّة الذي يعلن تباعاً مرشّحيه في مختلف الدّوائر الانتخابيّة وليس آخرهم دولة الرئيس غسان حاصباني في بيروت الأولى. بينما القوى التي تمثّل السلطة ما زالت غير جدّيّة في هذا الموضوع، ما يؤشّر إلى رهانها المستمرّ على الطريقة الثانية.
– فرض الانهيار التام حتّى الوصول إلى حالة من الفوضى الدستوريّة والاجتماعيّة وليس حرباً أهليّة كما يظنّ بعضهم لينجح هذا الفريق بفرض تسوية دوليّة جديدة تقدّم له ما يصبو إليه.
لكن يبدو أنّ فريق السلطة الذي يقرأ الوقائع جيّدًا من انتخابات العراق إلى هزائم اليمن وسوريا سيقتنع حتماً بأنّ أيّ اتّفاق إقليميّ لن يكون مضمونًا مئة بالمئة ليحقّق مشروعه الدستوريّ، لا سيّما بعدما تمكّنت قوات ألوية العمالقة، بمساندة طيران تحالف دعم الشرعية، من تحرير مديرية “عين” بمحافظة ” شبوة”، جنوب شرقي اليمن، من ميليشيات الحوثي، بعد معركة عنيفة خسرت فيها هذه الميليشيات مئات القتلى والجرحى. فتمّ حسم معركة التحرير هذه، وفيها آخر معاقل ميليشيا الحوثي المدعومة إيرانيًّا في محافظة شبوة، بعد أن سيطرت على معسكر اللواء 153، وسط حالة من الانهيار في صفوف الحوثيين.
لذلك، سنكون أمام واقعَين جديدَين متزامنَين بدءاً من اليوم:
– انطلاق الماكينة الانتخابيّة للسلطة بكلّ ما فيها من قوّة شرعيّة وغير شرعيّة، لا سيّما إعلاميًّا.
– افتعال أحداث مزعزِعَة جديدة قد تتمّ فيها استعادة سيناريو إيقاظ بعض الخلايا الارهابيّة النائمة مثلاً لأنّها غبّ الطلب ولم يتمّ تحريكها إلى حينه.
خلاصة القول، يبدو أنّ هذه المنظومة باتت تحسب كيفيّة التقاط ما تبقّى لها في الحكم. ولن تنجح في ذلك لأنّ اللبنانيّين الكيانيّين الأحرار قد عقدوا العزم على قبعها من جذورها بعدما اقتنع معظم اللبنانيّين بالخديعة الكبرى التي كانوا ضحيّتها منذ ذلك السادس من شباط في العام 2006 وحتّى اليوم، ولم تعد تنطلي عليهم أساليب احتيالها البائدة. فهذا الألمُ الذي ألمَّ في جسم الدولة، لقد ألْمَمْنا كلّنا بدائه، واليوم أنّ آنٌ، وقد آن أوانه.