هناك شبه إجماع بين الخبراء الاقتصاديين والماليين على أن مشروع الموازنة العامة للعام 2022، الذي تشرف الحكومة على الانتهاء من إقراره تمهيداً لإحالته إلى مجلس النواب، لا يحمل عناصر إصلاحية بنيوية جدية، بما يسمح بالبدء من مكان ما لوقف الانهيار وإمكان إعادة البناء والنهوض الاقتصادي.
وفي جوهر فذلكة الموازنة، من الواضح أن عملية إطفاء الخسائر وتسكير العجز في الموازنة، ستتم من جيوب المواطنين، لا عبر رفع نسبة النمو وتحفيز النشاط الاقتصادي في مختلف القطاعات، وخفض النفقات التنفيعية غير المجدية بدءً بإعادة هيكلة القطاع العام. وكما يبدو، فإن تمويل العجز سيكون من خلال ضخ تريليونات الليرات الإضافية في السوق، ما سيترك انعكاسات سلبية بديهية على سعر الصرف وقفزات جديدة للدولار في السوق السوداء.
ويشير رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني، في حديث إلى موقع القوات اللبنانية الإلكتروني، إلى أن “عجز الموازنة العامة المطروحة يبلغ نحو 10 تريليون ليرة، فمن أين سيموَّل؟”، لافتاً إلى أنه “على الأرجح، سيتم تمويل العجز من خلال قرض من مصرف لبنان للحكومة، أي عن طريق طباعة المزيد من الليرة”.
ويضيف، “هذا يعني أن الحكومة قرَّرت بموجب هذه الموازنة، ضخّ 10 تريليون إضافية في السوق اللبناني، ما سيزيد حجم الكتلة النقدية الضخمة الموجودة حالياً والبالغة نحو 54 تريليون ليرة، وبالتالي سيساهم بانهيار أكبر لسعر الصرف، لأن العجز في الموازنة المنوي إقرارها للسنة الحالية أكبر من العجز في موازنة العام 2021”.
ويعتبر مارديني، أن “مشروع الموازنة المطروح، يعني أن الحكومة تموِّل الدين العام من خلال التضخم. أي نقوم بطبع المزيد من الليرة لكي نسمح للقطاع العام فقط، (مصرف لبنان والحكومة)، بأن يسدِّد القروض الواجبة عليه للمصارف عن طريق طباعة الليرة”، لافتاً إلى أن “هذا ما يسمح للمصارف بالاستمرار في تسديد دولارات المودعين بالليرة، بموجب تعاميم البنك المركزي المتسلسلة”.
ويؤكد مارديني، أنه “طالما استمر هذا النهج، يعني ذلك أننا نقوم بتدفيع المواطنين، من خلال التضخم، كلفة الخسائر التي تسبَّبت بها المصارف عبر إقراضها للقطاع العام بشقيه، مصرف لبنان والحكومة”، مشدداً على أن “الحلول موجودة، وتبدأ من ضبط العجز في الموازنة العامة، وبدل العجز يصبح لدينا فائضاً، ومنه نبدأ بتقسيط الديون بدل طبع الليرات، عندها يبدأ الوضع بالاصطلاح”.
ويعرب عن أسفه، لأننا “لم نرَ إصلاحات هيكلية في هذه الموازنة، لها علاقة بإعادة هيكلة القطاع العام مثلاً، بشكل يخفِّض النفقات بشكل كبير. كل ما لاحظناه أنهم أخذوا بالاعتبار حصول تغيُّر ما في سعر الصرف، وزيادة بعض التعرفات والرسوم وما شابه، لكن لم تحصل إعادة هيكلة للكلفة المرتفعة في القطاع العام ومحاولة تخفيضها”.
ويلفت مارديني، إلى أن “الجميع يعلم أن الكثير من الأكلاف في القطاع العام حصلت وتحصل على أساس زبائني ومحسوبيات. بالتالي يجب تنظيف القطاع العام، الأمر الذي لم يحصل، وهذا بحاجة إلى عمل وجهد تمنَّعت الحكومة عن القيام بهما. وكنّا نود أن تكون هذه الموازنة الخطوة الأولى من خطة التعافي الاقتصادي، لكن يبدو أنها لا تلبِّي الطموحات”.
والتعافي الاقتصادي يمكن أن يبدأ من قطاعات أساسية، وفق مارديني، مشيراً إلى أن “من النقاط اللافتة في الموازنة، إعطاء مؤسسة كهرباء لبنان سلفة بـ5.2 تريليون ليرة لشراء المحروقات، وهو ضعف المبلغ الذي كان يعطى في السنوات الماضية، ما يعني أننا لا نزال في مكاننا ولم نبدأ بالإصلاح. فأكثر القطاعات إلحاحاً والمسؤول عن نصف الدين العام تقريباً ويحتاج إلى إصلاح هو قطاع الكهرباء، ولا نزال على النهج ذاته من دون أي إصلاح”.
ويضيف، “لا نريد تصحيح موازنة كهرباء لبنان وتحسين الإيرادات وجباية الفواتير، ونريد الاستمرار على السياسة ذاتها في الاتكال على الخزينة لتسكير خسائر كهرباء لبنان”، مشدداً على أن “هذا الأمر غير مقبول الاستمرار فيه. فإن كانت كهرباء لبنان عاجزة عن تصحيح وضعها وميزانيتها، لنفتح هذا القطاع ونتيح إمكانية دخول شركات خاصة، تأتي وتؤسس معامل جديدة وتؤمِّن الكهرباء وتبيعها مباشرة للمستهلك”.
وكذلك قطاع الاتصالات، بحسب مارديني، “حيث نشهد انقطاع الانترنت ويتم تهديد المواطنين بين فترة وأخرى بتوقف هذه الخدمة، وفي الوقت ذاته نطالبهم بالبقاء في بيوتهم والعمل منها، تبعاً لتداعيات كورونا. فمع عدم وجود إنترنت كيف يعملون من المنازل؟ يجب أن يتم فتح قطاع الاتصالات أكثر للمنافسة بدل احتكار الدولة له كقطاع الكهرباء”.
ويشدد مارديني، على أنه “يجب البدء جدياً بتفكيك كل هذه الاحتكارات الخانقة للبلد، سواء احتكار الكهرباء الذي يخنق الصناعة والزراعة، أو الاتصالات الذي يخنق التكنولوجيا، أو الطيران الذي يخنق السياحة، وغيرها كثيرة”. ويسأل، “ألا يجب البدء من هذه القطاعات الأساسية، أم نقوم بإعداد موازنة خالية من الإصلاحات وتقوم فقط على تركيب وترتيب بعض الأرقام؟ هذا لا يجوز”.
أي عملية نسخ من دون ذكر المصدر تعرض صاحبها للملاحقة القانونية