نشرت “المسيرة” – بقلم شارل مالك – العدد 1725
لبنان وطن للحرية والإنسان
نحن هنا في صدد عرض عام للمسائل التي يثيرها مصير لبنان. هذا العرض بمجمله ليس سوى خلاصة وبلورة لقناعات أساسية توصلتُ إليها وسبق لي نشر بعضها بشكل أو بآخر. غير أن جمع هذه القناعات في إطار واحد متسلسل قد يؤول الى بعض الفائدة.
لبنان مؤهّل، بتراثه وتركبيه، لأن يكون ويبقى وطناً للحرية والعقل والحقيقة والمحبة والإنسان.
الحرية الحق هي الحرية الشخصية الكيانية الإنسانية المسؤولة.
العقل هو قدرة الإنسان على القبض على الحقيقة، كل حقيقة، والتأكد منها.
الحقيقة هي ما هي الأشياء، كل الأشياء، في حد ذاتها.
المحبة، عند المسيحيين، هي محبة المسيح التي حددها بقوله: «ما من حبّ أعظم من حبّ من يبذل نفسه في سبيل أحبائه» (إنجيل يوحنا 15: 13)، والتي وصفها بولس الرسول في قوله: «المحبة تتأنّى وترفُق. المحبة لا تحسد ولا تتباهى ولا تنتفخ، ولا تأتي قباحة، ولا تلتمس ما هو لها، ولا تحتدّ، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء» (الرسالة الأولى الى أهل كورنثوس 13: 4 – 7).
والإنسان هو ما يُستخلص من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن طبيعة الإنسان وكرامته وحقوقه وواجباته وحرياته الأساسية.
فما نعنيه بقولنا إن لبنان مؤهّل لأن يكون وطناً للحرية والعقل والحقيقة والمحبة والإنسان، هو أن الحرية كما حددناها، موجودة ومحترمة فيه، أن العقل بإمكانه عَقْلُ أية حقيقة تتكافأ مع قدرته والتثبّت منها وإعلانها فيه، أن محبة المسيح ممكنة تمامًا فيه، وأن القدر من كرامة الإنسان الذي يصوّره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان محقّق فيه بشكل يتميّز به عن غيره.
حرية المسيحية وأمنتها
أمام خطر زوال حريتها وأمنتها (بين الايمان والأمن)، تولّدت لدى المسيحية في لبنان خمسة مواقف أساسية:
1-أنها لا تريد لنفسها أكثر مما تريده لغيرها. هذا أمنع موقف أساسي يمكن أن تقفه. إنه برهان قاطع على وجود نية حسنة لا تطمح الى السيطرة والتسلّط.
2-أنها لا تقبل لنفسها بأقل مما يريده غيرها لنفسه.
3-أن حريتها وأمنتها لا تختصان بمنطقة معينة، بل تشملان كل مسيحي وكل مجتمع مسيحي في كل لبنان.
4-أن حريتها وأمنتها لا تتوقفان على أي إعتبار ديموغرافي أو أي إتجاه سياسي أو عقائدي.
5-وأن الإحترام الحقيقي التام المتبادل، وسعة الصدر، بين جميع الأديان والمذاهب والثقافات، هما الشرطان اللازمان لوجود لبنان أصلاً ولثبات الحرية الحق فيه.
حرية المسيحية تعني أنها لا تخضع لأي ضغط سياسي أو مجتمعي أو إيديولوجي من خارج ذاتها، بل إنها، تمامًا، سيدة قيمها وتراثها ومصيرها وتنظيمها وطقوسها وعلاقاتها الحرة العضوية بالمسيحية العالمية. المسيحية في لبنان جزء لا ينجزئ من المسيحية العالمية.
أمنة المسيحية تعني أن سيادتها على ذاتها، قيمًا ومصيرًا، مضمونة داخليًا، قانوناً وعُرفاً، وأن تحظى هذه الأمنة الداخلية أيضًا بضمان دولي.
في وجه ما يُبيّت للبنان اليوم، في الخفية وفي العلن، أصبح واضحًا تمامًا لدى العالم كله أن مصير المسيحية فيه في كفة القدر، بمعنى أن حريتها وأمنتها مهددتان بخطر الزوال التام من الوجود.
تقيس المسيحية في لبنان كل إجراء، سياسيًا كان أم بنيانيًا أم ثقافيًا، من زاوية حريتها وأمنتها. فبقدر ما يؤول الإجراء الى تأمين هاتين الحرية والأمنة وترسيخهما، ترحب به، وبقدر ما يفضي الى تقويض المسيحية الحرة الآمنة في لبنان أو إضعافها، ترفضه وتقاومه بشتى الوسائل.
تحرص المسيحية في لبنان، أشد الحرص، على أن تكون بالفعل حرة آمنة، سيدة تراثها وقيمها ومصيرها، تمامًا كفي أي بلد آخر في العالم هي فيه بالفعل حرة آمنة، سيدة تراثها وقيمها ومصيرها.
لذلك لا تقبل المسيحية في لبنان أن تكون حرة آمنة، سيدة تراثها وقيمها ومصيرها، أقل مما تتمتع المسيحية به في بون وباريس وبرمنغهام وبوسطن وبرزباين وبوانس أيرس.
المسيحية اللبنانية الحرة، بتنوّع إنتماءاتها، بعدم تعدّيها على أحد، بسبب تأصّلها الثقافي في تربة هذا المشرق، وبسبب علاقاتها العالمية التاريخية العريقة، تكون مصدر نعمة وثراء، ليس لذاتها فحسب، بل للإسلام ولليهودية وللعالم معًا.
الحوار وشروطه
كل تفكير في فرض أي نظام على لبنان، أو في تعديل نظامه القائم، بالقوة أو بالضغط أو برؤوس الحراب، تفكير لن يُكتب له النجاح الباقي، هو الحوار السلمي الحر وحده، القائم على الإحترام الحقيقي المتبادل، البعيد عن كل ضغط أو إرهاب أو تهديد، الذي له أي حظ بالنجاح، حتى لو دام أمد هذا الحوار عشر سنوات أو عشرين.
الحوار لم يخترعه الشرق ولم نخترعه نحن اللبنانيين. الحوار له تراث عريق يرقى الى ألوف السنين. نجده في شبه كمال في حوارات أفلاطون، أربعمئة سنة قبل المسيح وألف سنة قبل الإسلام. شروط الحوار خمسة: الإحترام المتبادل بين المتحاورين، حرية الكشف عن كل شيء، إحترام الحقيقة في غير تعسّف في كل ما يُعرض ويُقال، إعتماد قواعد إجرائية للحوار (Rules of Procedure) تُطبّق على جميع المتحاورين على السواء (هذا الشرط الرابع يعني أن إدارة جلسات الحوار لا تُناط بأي كان من البشر بل بشخص يعرف جيدًا الأصول الإجرائية لإدارة هذه الجلسات)، وإرادة التوصل الى إتفاق. إذا اختلّ أحد هذه الشروط الخمسة بطل الحوار. عندئذ تنتقل عملية الحسم الى حد السيف.
يُقاس مقدار كوننا شعبًا متحضّرًا، مقدار دخولنا في الحضارة الإنسانية العالمية الواحدة، بمقدار قدرتنا وطاقتنا على هذا الحوار. وبقدر ما ليس لنا به قِبَل نحن خارج هذه الحضارة، نتمرّغ بعدُ في ظلمة خارجية.
الميثاق النداء…
لبنان الذي يستحق أن نحيا لأجله ومن أجله نموت
طوال شهور الصيف، السنة 1976، وكانت الحرب قد بلغت ذروة حدتها، كان رفاق العمر: جواد بولس، شارل مالك، فؤاد افرام البستاني وإدوار حنين في إجتماع يكاد يكون متواصلاً، يفتشون عما يمكن أن يستنهض اللبنانيين بغية التصدي للعدوان الغادر الذي مشى إليهم منذ نسيان 1975، ، فرأوا أن يوجهوا إليهم نداء، من ضمن نقاط كانوا قد اتفقوا عليها في هذا الميثاق. الملاحظ أن قيادات الجبهة اللبنانية الآخرين لم يوقعوا على هذا النداء الذي يتضمن نقاطاً مبدئية جوهرية من دون أن يتطرق الى الوضع السياسي، خصوصًا أن الوقت الذي صدر فيه كان يشهد بداية مرحلة التمهيد لدخول قوات الردع العربية الى لبنان وتسلّم الرئيس الياس سركيس رئاسة الجمهورية. وقد جاء في النداء:
المادة 1: لبنان وطن عريق، متواصل التاريخ، نهائي، دائم، سيد، حر، مسؤول، منفتح بتقدير واعٍ على العالم أجمع، متعامل معه باحترام متبادل في حدود سيادته المطلقة.
المادة 2: لبنان قيمة عالمية واجبة الوجوب، ملتقى الحضارات والتيارات الروحية، ومختبر حضاري فذ.
المادة 3: لبنان وطن الإنسان: فيه تُحترم حقوقه، تُصان كرامته، تُرعى حرياته، تُنمّى شخصيته، ويُعزز كل ما هو إنساني فيه.
المادة 4: لبنان وطن المحبة، والسعادة، والاخاء.
المادة 5: اللبناني هو من متّ الى لبنان بسبب أصيل، سواء أظل في أرض لبنان أم طوّف مرتادًا في أنحاء الدنيا. وهو كل من انتسب للبنان وكان لبناني الولاء.
المادة 6: المجتمع اللبناني مجتمع إنساني حر، متصل بكل حق ونور، تنهض به روح مجتمعية مميّزة.
المادة 7: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يجد فيه لبنان شرعته الطبيعية. فهو يلتزم به، وبه يتزوّد.
المادة 8: حرية لبنان مطلقة ينعم بها اللبنانيون جميعًا، في حدود الحرية ذاتها.
المادة 9: الحقيقة قيمة لبنانية، والمعرفة طريق الوصول إليها، لا يعوّج عنها اللبناني من المهد الى اللحد.
المادة 10: لبنان نتيجة محتومة لتاريخ مستمر على مدى ستة آلاف سنة. وهو ثمرة حضارات فاعلة، طوال هذه السنين، كوّنت تراثاً إنسانيًا متكاملاً.
المادة 11: لبنان الكل للكل: كل لبنان لكل اللبنانيين.
المادة 12: لبنان مع كل تطور إنساني يؤول الى التقدم والإرتقاء.
المادة 13: لا ولاء للبنانيين غير ولائهم للبنان
المادة 14: اللبنانيون متساوون في الحقوق والواجبات، وفي إدارة الحكم وتقرير المصير. لا يفضل لبناني لبنانيًا آخر إلا بنسبة إخلاصه للبنان.
المادة 15: لا ينفع اللبناني شيء إن ربح العالم كله وخسر لبنان.
المادة 16: يظل لبنان، الوطن الأوحد الذي يستحق أن نحيا لأجله، ومن أجله نموت.
المادة 17: السياسة هي نذر النفس لخدمة المجتمعية اللبنانية، يطمح معها اللبناني، من خلال الطاقات الخلقية المجتمعية، الى تطويع المستحيل في سبيل لبنان.
المادة 18: لبنان مبارك إن أعطى، ومبارك إن أخذ، ومبارك إذا استطاع أن يأخذ منا فوق ما أعطى.
المادة 19: ما يستهدف لبنان يستهدف كل مواطن لبناني، وما يصيبه يصيب كل مواطن فيه.
المادة 20: نظام الحكم في لبنان: جمهوري، ديمقراطي، برلماني، دستوري.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]