لبنان الدولة والكيان والنظام الى أين؟

حجم الخط

كتب اللواء أشرف ريفي في “المسيرة” – العدد 1725

لبنان الدولة والكيان والنظام الى أين؟

تطبيق النظام لا الخروج عنه

لبنان هذا الكيان، المتعدد والمتنوّع في طوائفه ومذاهبه، وأعراقه، وانتماءاته يشكل نموذجاً مميزاً في هذه المنطقة يجب الحفاظ عليه وحماية إستقراره والحفاظ على دوره، لأنه يمثل التعددية الدينية والثقافية التي تستطيع الإنسجام والتناغم في ما بينها رغم إختلاف مشاربها وثقافتها، ويعطي مثالاً على الرغبة الحقيقية في حماية العيش المشترك، وفهم فكر وثقافة الآخر. صورة لبنان هذه، أو دور لبنان هذا، يحتم علينا العمل والسعي الجدي والحثيث للخروج من دوامة الصراعات والمناكفات التي لا تؤدي إلا الى مزيد من الدمار والتراجع والتخلّف، ولا تقودنا إلا الى الإنعزال وخسارة الدور والحضور والتميّز الذي يشكل بوابة الإنفتاح والعلاقة الطيبة مع العالم العربي والمجتع الدولي… لذا إذا ما فهمنا دور لبنان وأهميته، عملنا جميعاً للمحافظة عليه، وسعينا بشكلٍ مشترك لتعزيز ثقافة الحوار في ما بيننا، ومن ثم تطوير أسس الكيان والنهوض به ليكون أكثر حضوراً وفعاليةً ومواكبة للتطورات السياسية والاقتصادية في المنطقة والعالم.

من باب الرغبة في تعزيز الهيمنة على الواقع اللبناني أو تخوّفاً من جشع الفريق الآخر ورغبته في السيطرة والهيمنة، يطرح البعض مسألة تعديل النظام أو الصيغة أو حتى شكل الحكم، وهذا كلام غير واقعي على الإطلاق لما قد يشكله هذا الطرح من إنعدام الثقة بين المكوّنات اللبنانية، كما قد يقود الى خلافات لا مبرر لها.

لذا وتجنباً للوقوع في فخ ما يتم طرحه من مؤتمر تأسيسي أو إعادة النظر في النظام، نرى أن المطلوب بدايةً هو تطبيق النظام لا الخروج عليه، وتنفيذ أحكام القوانين لا عدم الإلتزام بها، واحترام أسس النظام الديمقراطي لا تعطيلها وترجمتها بما يناسب أهواء هذا الفريق أو ذاك بشكلٍ يشوّه مفاهيم الديمقراطية الحقيقية والعمل الديمقراطي ضمن المؤسسات، وترسيخ سيادة الدولة على مؤسساتها أولاً وعلى الاراضي اللبنانية كافة، ووقف الترهيب بالتعطيل أو إثارة الفوضى أو الإحتكام الى الغرائز والمشاعر الطائفية والمذهبية.

نشأ الكيان اللبناني على أسس المبادئ الديمقراطية، ويقوم مفهوم الديمقراطية على حكم الأغلبية ومعارضة الأقلية، وتداول السلطة بين الموالاة والمعارضة بناءً على ما تفرزه صناديق الإقتراع من نتائج، في حين أن الديمقراطية الميثاقية التوافقية التي يتم تطبيقها الآن بقوة سلاح ميليشيا «حزب الله»، بعد خنوع وخضوع القوى السياسية التي قبلت الإنخراط في تطبيق هذا المفهوم. هذه النظرية لا أساس لها لا في الدستور ولا حتى في كتب النظريات التي تتحدث عن الديمقراطية وشكلها وكيفية ممارستها. وقد أدى السقوط في فخ تطبيق الديمقراطية الميثاقية الى إنهيار السلطة التننفيذية وتعطيل عمل المؤسسات وغياب منطق المحاسبة والمساءلة، مما يكشف أن الهدف الأساسي لفرض هذا الواقع السياسي المناقض للديمقراطية التي قام عليها لبنان الوطن والكيان، هو تغيير صورة لبنان وتغييب دوره السياسي والإعلامي والحضاري، وتحويله الى ساحة صراع في الداخل بين مكوّناته كما مع محيطه الإقليمي ومنصة إطلاق مواقف وبيانات تخدم محور إيران وليس خدمة لبنان وشعب لبنان.

لذلك فإن أي فكرة تُطرح أو مطالبة بعقد مؤتمر تأسيسي أو مناقشة شكل النظام أو تعديله إنما هي مكيدة لضرب الصيغة اللبنانية المميزة لالغاء دور لبنان الذي نعرفه والذي على أساسه قام الكيان. وما نعيشه اليوم من أزمات وتداعيات خير دليل على ذلك.

أمر آخر يجب الإشارة إليه والتأكيد عليه، وهو أن المجتمع العربي كما الدولي حريصان على أن يبقى لبنان التعددي والمتعدد في صيغته الفريدة منارة مضيئة تبعث الأمل في نفس كلّ حرّ، وساحة حوارٍ بين الثقافات والأديان لا ساحة صراع وإعلان حروب وتصدير ميليشيات ومخدرات. وبيان جدة الذي صدر عقب القمة السعودية ـ الفرنسية كان واضحاً وصريحاً لجهة التأكيد على ضرورة الإلتزام باتفاق الطائف، ووقف أشكال الخروج كافة على مؤسسات الدولة وحصرية السلاح بيد المؤسسات الرسمية اللبنانية.

بناءً على هذا نقول إن لبنان الكيان المتعدد والمتنوّع  باقٍ ومستمر، وما نعيشه اليوم من ظروفٍ قاهرة هو مرحلة إستقواء لسلاح لا يؤمن بالوطن والعيش المشترك. ومواقفنا الثابتة والراسخة في مواجهة هذا السلاح الذي يغتصب السلطة ويشوّه النظام لا بد أن تثمر، وينتهي ويسقط هذا المشروع، بفضل جهود وتكاتف كل القوى المؤمنة ببقاء لبنان واستقراره. ويبقى أن تطبيق الدستور والقوانين واحترام المؤسسات هو أساس الإستقرار.

لذلك نقول إنه لا يمكن التفكير في تطبيق الفيدرالية في لبنان، لأنها قد تشكل بداية تفكك الكيان وانهياره بدل ضمان إستقراره وانطلاقه من جديد. فالفيدرالية نظام مثالي للمجتمعات التعددية ذات المساحات الجغرافية الكبيرة والأعراق المختلفة واللغات المتنوّعة، والتي في الوقت نفسه تمتاز بتقدم سياسي وثقافي وأفق ديمقراطي، وأحزاب وطنية لا طائفية أو مذهبية، وتؤمن بالوطن على أنه نهائي وليس محطة في مسار أو في خدمة محور.

ثم إن المساحة الجغرافية في لبنان، كما التداخل الديموغرافي في مختلف أجزاء وأقسام الوطن للمجموعات الدينية والمكوّنات المتعددة والمختلفة، يجعل من هذه الفكرة غير قابلة للتطبيق، إلا إذا كان أحد ما يفكر باستغلال مفهوم الفيدرالية لترسيخ الرغبة في التأسيس لبداية التقسيم الجغرافي والديني، وهذا ما لا يتحمّله لبنان من كافة النواحي… وهذا الطرح يتناغم ويتطابق تماماً مع إستغلال «حزب الله» لمفهوم الميثاقية التوافقية لتعطيل الدستور وتهشيم صورة الكيان اللبناني ونظامه الديمقرطي.

الحفاظ على التعددية في لبنان أمر لا يمكن تجاوزه أو التخلي عنه، وطرح الدولة المدنية ملتبس لأن واقع الأمر هو أن الدولة اللبنانية أو نظام الحكم في لبنان هو نظام مدني وليس دينيًا، مما يدل على عدم الفهم الحقيقي للنظام السياسي في لبنان من قبل بعض السياسيين والإعلاميين.

والحفاظ على خصوصيات الطوائف المتعددة لا يشكل تناقضاً مع مفهوم الدولة المدنية، بل يؤكد على أن الدولة المدنية تحفظ الحقوق وترعى التنوّع والتعددية. وهذا يؤكد لنا أن مشكلة لبنان الحالية هي في عدم تطبيق المواد الدستورية واحترام دور المؤسسات الدستورية، والإلتزام بالمفاهيم الديمقراطية على أنها مشروع حكم وممارسة وليس مجرد شعار. وهنا تكون اللامركزية الإدارية فقط، وليس اللامركزية المالية أو السياسية، خطوة عملية لتسهيل أعمال ومصالح المواطنين، وليس لرسم حدود بين المناطق والمجموعات الدينية في لبنان.

لذلك نرى أن لا حل للبنان إلا بالعودة الى تطبيق الدستور بشكل كامل ومن دون تجزئة. وبناءً على التطبيق والممارسة الصحيحة، يمكن طرح تعديل بعض المواد الدستورية أو القانونية التي تتطلب تعديلاً وتطويرًا بحيث تتناسب مع حاجات الكيان وما يلزمه من مواد قانونية للنهوض بواقعه، وهذا ما يضمن إستقرار لبنان وعودته الى سكة الحياة والإنطلاق على الأسس التي قام عليها وهي التعددية واحترام الآخر وتقديم نموذج حضاري للعيش المشترك..

المقال يعبّر عن رأي الكاتب

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل