كتب المحامي بول يوسف كنعان في “المسيرة” – العدد 1725
لا يعيش لبنان اليوم أزمة مالية واقتصادية واجتماعية، بل أزمة كيانية تهدد وجوده. فصيغة لبنان الكبير التي ولدت قبل مئة عام، تبدو في حاجة الى ولادة جديدة مع مطلع المئوية الثانية. والصيغة التي رست عليها الدولة مع الاستقلال، أحدثت فيها الأزمات والحروب والأبواب المشرّعة على الشرق والغرب تصدعات وتشققات كبيرة. والطائف الذي قيل إنه أنهى الحرب، لم يطبّق في الكثير من بنوده، فبدا كلائحة طعام يختار منها كل فريق ما يناسبه، ويرفع بنوداً أخرى كالفزّاعة في وجه الآخرين.
وبهذا استمرت الحرب وإن صمت المدفع. وجاءت الأزمات المتلاحقة في السنوات الأخيرة لتثبت أننا ما زلنا في حالة حرب، بما أن قواعد لعبة الحرب لا تزال سائدة.
أي لبنان نريد؟ هو السؤال المحوري هذه الأيام. فقد أراد الآباء المؤسسون لهذا الكيان، أن يكون مساحة حرية في هذه البقعة من العالم، تقوم على منطق المواطنة الحاضنة للتنوّع. فشكّلت هذه المساحة الجغرافية منطلقاً للأفكار بمختلف تلاوينها، السياسية والاقتصادية والفنية والروحية. وكانت قبل أي شيء آخر، نقطة ارتكاز لمنطق العيش معاً، على أساس احترام حق الإختلاف، وعدم تحوّل التنوّع والتعددية، الى أزمة بل حلّ، يقوم على دولة القانون.
ولكن الحال، أن اللبنانيين لم يتمكنوا من بناء دولة تليق بهذا التاريخ وهذا الإرث الكبير. لماذا؟ لأنهم لم يتمتّعوا بالجرأة على قول الأمور كما هي، ولأنهم فتحوا آذانهم على جهات عدة، فبات الحديث عن تأثّر هذه المجموعة أو تلك، بالغرب أو بالشرق، مسألة طبيعية. وراحت كل جماعة أو مجموعة تستقوي على الآخر بحسب موازين القوى، وتأكل من خبرات الدولة ولا تعطيها. وهكذا، وعلى مدى مئة عام، تكررت المشهدية، وتبدّل معها الغالب والمغلوب كل عشر سنوات، بتغيّر الراعي الدولي أو المهيمن على القرار.
فهل نستمر على هذا المنوال؟ وهل تبقى أبوابنا مشرّعة على كل التدخلات ويستمر الهدر والفساد والمحسوبيات والمصالح، على حساب الدولة والكيان؟ وهل يتواصل التكاذب والتعويل على الفرص؟ في الواقع، لم يعد الوقت في صالحنا، ونخشى أنه، إذا ما واصلنا إضاعة الوقت، أن نندم عندما لا يعود ينفع الندم.
لقد حان وقت المصارحة الحقيقية التي نقول فيها «مش ماشي الحال»، فننطلق الى دولة القانون، الحاضنة لتنوّعنا. وليتحوّل الحديث عن اللامركزية الموسّعة الى قانون وتطبيق من خلال ورشة تشريعية فعلية لا تتوقّف قبل إنجاز هذه المسألة. ولتتحوّل بلداتنا ومناطقنا وقرانا مساحات للمشاريع المختلفة البيئية والاقتصادية والسياحية والتربوية والثقافية والتجارية. فلتتنافس بلداتنا على ما هو أفضل لها ولأهلها وللوطن.
ولنجعل من الحياد الإيجابي الذي طرحته البطريركية المارونية درعنا الواقية في منطقة تتعاصرها الصراعات الإثنية والسياسية والدينية والاقتصادية. وإلاّ ستأتي الحلول على حسابنا، ونعود للتقاتل والمشكلات بعد سنوات. لقد أراد البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي هذا الطرح شبكة أمان لهذا البنيان اللبناني، من موقع الحرص عليه وعلى جميع أبنائه.
فكما كان المثلث الرحمة الياس الحويك مرافق لبنان الكبير، ها هو الراعي يدفع في اتجاه ديمومة لبنان الجديد.
لذلك، فالمطلوب سماع صوت المنطق، صوت الراعي، بدل إطلاق الأحكام المسبقة الرافضة للإعتراف بالخطأ وغير الراغبة بتصحيح المسار. والمؤسف، أننا نعرف المشكلة لكننا نتجنّب مقاربتها بجدّية. فحبذا لو تشكّل الأزمة الراهنة جرس إنذار، نخلع عنّا معه لباسنا القديم، لنبدأ مسيرة وضع الحجر الأساس للبنان الذي نريد.
يُقال إن اللبناني «كيف ما بتزتوا بيجي واقف على إجريه». مقولة أثبتت صحتها في ضوء نجاحات اللبنانيين في الخارج، حيث أبدعوا على الصعد كافة، وخرج من بينهم متفوّقون. ولكن الوقت حان ليقف اللبناني على رجليه في وطنه، ويطمح وينجح ويبدع ويتفوّق، فينهض وطنه من جديد.
هي أزمة وستمر. لذلك فلتكن لحظة الأسئلة المصيرية، بهدوء وحكمة، وبمثابرة ورغبة في إصلاح الأمور، والإنتقال من الواقع السيئ، الى المستقبل المشرق. ولتكن الانتخابات النيابية المقبلة محطة ننطلق من بعدها الى الترجمة العملية لهذه التطلعات وهذا المسار النهضوي المطلوب.
علينا أن نحوّل الأزمات التي نعيشها فرصة لنولد من جديد لبنانيين، لا حجّة لنكفر بالكيان الذي ولد من رحم المعاناة وبذل الآباء والأجداد في سبيلها الدماء والتضحيات. إنه الوقت المناسب لنطرح همومنا على أسس واضحة، فننطلق من جديد.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]