لم تكن زيارة الوسيط الأميركي في المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، آموس هوكشتاين، إلى لبنان هذه المرة، كمثيلاتها السابقة. وقبل التحليل والتفاصيل وكواليس لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين، ثمة ملاحظات لا يمكن القفز فوقها وإشارات لافتة رافقت الزيارة، بل ربما سبقتها، وتبدأ من تحديد توقيتها بالذات، خصوصاً في ظل انشغال الإدارة الأميركية في ملفات ساخنة عدة على مستوى الخارطة العالمية.
ويعتبر، مدير مركز المشرق للدراسات الاستراتيجية سامي نادر، في حديث إلى موقع القوات اللبنانية الإلكتروني، أن “ثمة 3 ملاحظات أساسية حول زيارة هوكشتاين، تستحق التوقف عندها. على الرغم من ألا تفاصيل مؤكدة، حتى الآن، حول ماهية العرض الحقيقي الذي حمله في جعبته، لكن يمكن لمتابعي الملف أن يستشفوا الكثير حول طبيعته”.
ويشير نادر، إلى أن “الأميركيين أعادوا تحريك هذا الملف وأرسلوا هوكشتاين إلى بيروت، في لحظة تنهمك فيها واشنطن بأمور كبيرة عدة. بالنسبة للصراع القائم مع الصين، إنما خصوصاً على مستوى الصراع الحاصل حول أوكرانيا مع روسيا”.
ويوضح، أنه “في ظل هذا المشهد المحتدم وضغط العمل الكبير داخل الإدارة الأميركية المنهمكة، أن يأتي موفد أميركي من مستوى هوكشتاين لتحريك ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، مع إشاعة أجواء تفاؤل رافقت زيارته، مسألة لافتة لا بدَّ من التوقف عندها باهتمام. فلو لم يكن الأميركيون يعتبرون أن هناك شيئاً جدّياً، لما أتى هوكشتاين”.
ويرى نادر، أن “النقطة الثانية التي تستحق التوقف عندها، كلام هوكشتاين من إسرائيل قبل انتقاله إلى بيروت، إذ أشار إلى أن هناك إمكانية للتوصل إلى إحداث خرق وتحقيق شيء ما قبل الانتخابات النيابية في لبنان. وكأن ثمة تعويل أميركي في مكان ما، على أن السلطة القائمة في لبنان يمكن أن تكون أكثر استعداداً في هذه اللحظة، تبعاً لحسابات مختلفة وهي على مشارف انتهاء ولايتها وعلى أبواب استحقاقات مفصلية، لتسويات معينة”.
ويشير، إلى أن “النقطة الثالثة المهمة التي شدد عليها هوكشتاين من بيروت، قوله إن على لبنان أن ينظر إلى ما يمكنه ربحه من التوصل إلى تسوية، لا إلى ما يخسره”، لافتاً إلى أنه “من القواعد المعروفة، أن الدخول في أي مفاوضات ليس كالدخول في حرب. بالتالي، كل من يدخل في عملية مفاوضة يُفترض أن يكون على استعداد مسبق بأن الطرف الآخر سيحصِّل شيئاً ما”.
ويلفت نادر، في هذا السياق، إلى “ما قاله هوكشتاين من أن على المرء أن يكون خلاّقاً في إيجاد الحلول. والمقصود، إذا بقينا نراوح ما بين النقطة 23 أو 29 أو غيرها، أي الخلاف على الخطوط الفوقية، فهذا لم يؤدِّ إلى نتيجة. بالتالي، قد تكون المقاربة المنتِجة هي استغلال الثروة، بمعنى تحت البحر، فهل يمكن إيجاد طريقة لتقاسم ما يوجد بين إسرائيل ولبنان، الآن؟ هنا علينا انتظار مدى قابلية الطرف اللبناني للموافقة على هذا الحل، من دون اعتباره نوعاً من التطبيع”.
ويضيف، “المطروح بشكل أو بآخر أن تأتي شركة ما مثلاً وتستغل الآبار، وتقوم وفق قواعد معينة بتقسيم الحصص وتوزيع الأرباح على لبنان وإسرائيل. أي ما يمكن تسميته (مقاربة الآبار بدل مقاربة الخطوط)، بمعنى الاتفاق على طريقة لتوزُّع الثروة الموجودة، لا البقاء عند نقطة حيث كل طرف يقول هذه أرضي، والخلاف مستمر. فماذا لو اتُّفق على زراعة الأرض وتوزيع الأرباح المحصَّلة مما تنتجه على الطرفين؟ بالتالي قد تكون هذه هي المقاربة الأميركية للحل، وربما لأن للطرف الأميركي مصلحة فيه”.
ويشدد نادر، على “ضرورة الانتباه إلى أن الوقت ليس لمصلحة لبنان إنما لإسرائيل، التي بدأت بعملية الاستخراج فعلاً بعكس لبنان. لذلك، تركِّز إسرائيل دائماً على أنها حريصة على استمرار المفاوضات وأنها لا ترغب أبداً بإيقافها، وتزعم حرصها على الوصول إلى اتفاق، وذلك بهدف عدم إعطاء لبنان أي فرصة أو حجة للّجوء إلى وسائل أخرى”.
“بالتالي، عنصر الوقت لا يلعب لمصلحة لبنان”، وفق نادر، “لا سيما أن الـfossil fuels أو الوقود الأحفوري يشرف على انتهاء عصره الذهبي خلال 5 أو 10 سنوات. فالعالم اليوم نتيجة التغيُّر المناخي والسياسات المترافقة، من اتفاق باريس واتفاق غلاسكو، واتفاقية المناخ وعودة واشنطن إليها، وغيرها، تتقلَّص استعمالات الغاز والنفط تدريجياً. فمثلاً، على الرغم من ارتفاع أسعار الغاز عالمياً اليوم، ستصبح كلفة استخراجه بعد فترة وجيزة قد لا تتعدى سنوات قليلة، أعلى من سعر بيعه في الأسواق العالمية”.
ويضيف، “أزمة أوكرانيا الحالية تذهب أكثر في هذا الاتجاه. ففرنسا على سبيل المثال عادت إلى تطوير إنتاج الطاقة النووي، لأنه صديق أكثر للبيئة، إنما خصوصاً نظراً لأهميته الجيوـ استراتيجية، كي لا تبقى تحت رحمة روسيا وتحكُّمها بفتح أو إقفال أنابيب الغاز إلى أوروبا”.
وتأكيداً على ذلك، يلفت نادر، إلى “إيقاف الإدارة الأميركية دعمها لمشروع إيست ميد، أي الأنبوب البحري الذي يربط إسرائيل عبر قبرص واليونان بأوروبا لتزويدها بالغاز”، معتبراً أن “ذلك يعني أن التوجه العالمي للمستقبل لا يعتمد على مصادر الطاقة التقليدية مثل الغاز والنفط وغير ذلك، وأن البحث يتركز على مصادر طاقة أخرى”.
بالتالي، يشدد، على أن “أمام لبنان بضعة سنوات فقط للاستفادة من الثروة النفطية التي يملكها، والتوصل إلى حلّ مقبول سريعاً، بعيداً عن الحسابات السياسية والشخصية والارتباطات بالإقليم بالنسبة لأي كان، إنما الأخذ في الاعتبار المصلحة الاقتصادية اللبنانية الصرف”.
ويرى نادر، أن “المسألة تشبه، إذا صح التعبير، اختلاف شخصين على ملكية دواء معين تنتهي مدة صلاحيته بعد سنتين وأحدهما بحاجة ماسّة إليه، فإما أن يتوصّلا إلى اتفاق على تقاسمه بالتي هي أحسن أو بعد سنتين تنتهي صلاحيته. أما التعويل على أن الغاز الموجود في قعر البحر اليوم قيمته مثل الذهب وسيحافظ عليها مع مرور الزمن، فهذه حسابات خاطئة جداً ولا تتلاءم مع التطور الاقتصادي والتكنولوجي في العالم”.
أي عملية نسخ من دون ذكر المصدر تعرض صاحبها للملاحقة القانونية