كتب رواد طه في “المسيرة” – العدد 1725
إن ضبابية المرحلة السياسية وانهيار النظام السياسي اللبناني الذي سقط عشية السابع عشر من تشرين الأول وتزامن مع إنهيار الاقتصاد والنقد والقطاع المصرفي اللبناني دفعت بجميع الأفرقاء الى إعادة النظر بهيكلية الدولة والنظام. إن معالجة الخلل البنيوي في النظام لا يمكن أن تتم قبل تشخيص جذور الأزمة التي تعود الى نشأة الصيغة التي شكلت العامود الفقري لسردية لبنان الكبير.
هذه المشكلة تعود في جذورها الى الصيغة والسردية التي بُني عليها لبنان وكرّستها الأعراف والإتفاقيات الظرفية بين الطوائف وآخرها إتفاق الدوحة. جميع الدول بحاجة لسردية لتكوينها ونشأتها. إن سردية البلد بكونه وطن لأقليات إثنية اختارت لبنان وطناً لها ليست في حد ذاتها المعضلة، بل إن المعضلة هي في «مأسسة» السردية. فبدل أن يُعامل المواطن بصرف النظر عن انتمائه العقائدي والمذهبي كمواطن لدولة ترعى شؤونه وله حقوق لديها وعليه واجبات تجاهها، أصبح المواطن جزءاً من مجموعة إثنية يرتبط انتماؤه للكيان بانتمائه إليها أولاً وليس العكس.
هذه السردية الهشة هي في صلب الأسباب التي أدت الى إندلاع الحروب الأهلية مع غياب الإنتماء الوطني والمواطنية الجامعة وغلبة الإنتماء المذهبي الذي دفع بالجماعات للتسلح والتعاون مع الآخر خوفاً من أبناء الوطن الواحد وطمعًا بالمزيد من القوة للجماعة في النظام نفسه الذي كرّس دور الجماعة لا دور الأفراد.
لا شك أن المشكلة اليوم التي تعيق عمل هذه السردية والصيغة التي تمت مأسستها هي وجود «حزب الله» كمنظمة هيمنت على السلطة المركزية واستغلت أيضًا السردية نفسها لتعطيل المؤسسات المركزية عبر فرضها خياراتها إما عبر الفيتو الشيعي ومنطق الميثاقية، وإما عبر سلطة السلاح ولكن أيضًا عبر التحالفات السياسية العابرة للطوائف.
وبما أن تقييم الأزمة أعلاه يخرج البعد الطائفي منها، فالإشكال اليوم ليس إشكالا طائفيًا بين مكوّنات مجتمعية اختارت لنفسها سرديات مختلفة، بل هو إشكال متعلق بهوية البلد أجمع، وبالتموضعات السياسية للأحزاب التي عزلت لبنان عن محيطه العربي وتحديدًا ثنائية «حزب الله» و»التيار الوطني الحر».
على المقلب الآخر ليس بعيدًا على أحد أن أحزاب أخرى مسؤولة أيضًا عن الإنهيار الاقتصادي والمالي عبر صفقاتها وسمسراتها وفسادها، ولكن العقبة اليوم أمام الإصلاح والخروج من الأزمة هي بتعطيل الدولة المركزية من قبل «حزب الله» بشكل أساسي عبر الديمقراطية التوافقية الشائبة التي خرجت من كونها مدخلاً للحفاظ على التنوّع وأصبحت تعرقل عمل المؤسسات.
من هنا فإن أي معالجة لأزمة الحكم والعقد الإجتماعي يجب أن تتمثل بتغيير شكل النظام بشكل يحافظ على التنوّع ولكن أيضا يحرر المؤسسات. لا شك أن مركزية أو لا مركزية النظام هي في صلب النقاش فتتنوّع الطروحات بين ثلاثة خيارات واضحة الدولة المدنية اللامركزية، والدولة العلمانية المركزية، والفيدرالية الجغرافية أو تلك القائمة على أساس الهويات الطائفية.
ولأن المعضلة ليست طائفية بباطنها ولو أن طائفية التعطيل هي سيدة الموقف، فإن الخلاف هو على الخيارات السياسية وهوية الوطن ودوره في المنطقة. فليس جميع الشيعة مع مشروع الممانعة الذي يشكل «حزب الله» رأس حربته ولو حصد أغلبية شيعية بالنظام الحالي لأسباب عديدة يطول شرحها. وعلى المقلب الآخر نرى العديد من المسيحيين والدروز والسنّة الذين يناصرون «حزب الله» ومشروعه.
من هذا المنطلق، فإن أي تبنّي لشكل نظام جديد أو عقد إجتماعي جديد يكرّس من جديد دور الطوائف على حساب المواطنة كالمثالثة أو الفيدرالية القائمة على الهويات هو ضربة لأي أمل بالإنتقال الى دولة المواطنة والمؤسسات. أما على المقلب الآخر، فتبنّي طرح الدولة المركزية المدنية أو العلمانية سينعكس مرة جديدة تكريسًا للطائفية بحد ذاتها بسبب القوقعة الطائفية التي ستحصل مع هكذا طرح بسبب الخوف من الغلبة العددية لمشروع على حساب آخر فنكون مرة جديدة فشلنا بإدارة التنوع.
يبقى الإنتقال الى دولة لا مركزية عبر تبنّي اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة مع تطبيق إتفاق الطائف لجهة إلغاء الطائفية السياسية من المجلس النيابي وإنشاء مجلس شيوخ ولو لفترة إنتقالية هو الحل الوحيد لتحرير المؤسسات من دون إعادة تكريس الطائفية على حساب المواطنة.
إن الطرح أعلاه ولو أنه يحرر المؤسسات الى حد ما ويسمح بإطلاق عجلة الإنماء ويحافظ على التنوّع، إلا أنه لا يحل ثلاث معضلات أساسية وهي السياسة الخارجية والاستراتيجية الدفاعية للدولة المركزية، ولا يحل أيضًا الأزمة المالية والنقدية والاقتصادية الراهنة لجهة أنها أزمة مركزية. ومن هنا يجب الإنطلاق الى إنشاء أوسع تحالف عابر للطوائف يتبنّى ويفرض تحييد لبنان عن صراعات المنطقة ويعيد قرار السلم والحرب الى كنف المؤسسات من دون إغفال حجم الأزمة الاقتصادية وسبل معالجتها ويكرّس عقداً اجتماعياً جديداً قائماً على دولة تكون المواطنة وحقوق الفرد في صلب سرديتها.
رواد طه ـ صحافي وناشط سياسي
المقال يعبّر عن رأي الكاتب
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]