كتب ميشال يونس في “المسيرة” – العدد 1725
“سنة الألف مسيحيّة وهبَ جرجس القرحيني الكرمسدّاني هذا الخَلقين إلى فقراء دير قزحيّا”. تدوينٌ منقوشٌ على دائرة خَلقينٍ نحاسيٍّ أو ما يُعرَف بـ”الدست” عند العامة كان النَّذرَ التأريخيَّ المُثبِّتَ بأنّ هذا الدير المُلتحِفَ بالشّير القزحَيّاوي هو أوّلُ الأديار المأهولة بالأدهار!
“قَزوحايو” الوادي الآراميّ الحامل معنى كنز الحياة تتجذَّرُ فيه وتتنامى معظمُ آياتِ ومواقع إبن الآب وأوضحُها علامةً بأنَّ مملكته ليست من هذا العالم.
إنَّه المُنعَزَلُ المَرجعُ والمقصَدُ لجموعٍ من زاهدين هجَّروا أَنفسهم عن سابق تصوُّرهم وتصميمهم من مساكن أهلهم وعشيرتهم وتوغَّلوا في شعابِه وقِفارِه توغُّلَ سنابلِ القمحِ على درب خبز التقدمة، وتوغُّلَ الزيتِ في أجفان قناديل القرابين، وتوغُّلَ الرياحين داخل مروج الزنبق والأقحوان وبخّور مريم يُلهمُهم ويُلهبُهم إيمانٌ مُطلَقٌ بأنَّ أمجادَ هذا العالم هو الهشيرُ اليابسُ الذي عليهم استئصاله من طموحهم البشري ورميه في التنّور!
مسحوا عيونهم لمرّةٍ أخيرةٍ بأبواب بيوت عائلاتهم ومَشوا يجذبُ أياديَهم محراثٌ إلهي يضعونها عليه من دون رمشةِ عينٍ إلى الوراء، ويقودُ أقدامَهم كَفَعَلَةٍ مُتحفِّزين للتنقيب عن أَجوَدِ تُرابٍ يُلائمُ بِذارَ الحنطةِ المؤهّلةِ لتحمِلَ كاملَ مسؤوليّةِ أفخارستيّا خبزِ الحياة وقوت الأرواح وعربون النّعيم!
رهبان وادي كنز الحياة ومنذ مئات الأعوام صمَّموا على بنيان كيانٍ وجوديٍّ لشعبهم على أُسُسٍ صلاتهم الربّية الفائقة العطايا والأنسَنَةِ «أعطنا خبزنا كفاف يومنا وكرامتنا ووجودنا» فعلَّموا هذا الشعبَ الشجاع كيف الصَّخرُ لا ينزاحُ إلاَّ ليُعطيَ مكانَه لحفافٍ مُتَرَّبةٍ يتوالدُ فيها الزرع وتتناسلُ منها الأغراس، وعلَّموه بمئات البراهين كيف العوسجُ والقُطربُ يتواريان من الحقول والهضاب متى نذرها ناذروها لأجفان الكروم وأعناق الدوالي وثريّات العناقيد!
من أرض “بخعي” إلى “الجورة” إلى “المسيلخ” إلى “غبتا” إلى “مشمشيّا” إلى “عين بقرة” عند كتف جبل مار الياس طبع رهبان دير قزحيا المقدامون هويَّةَ وطنٍ مختومٍ بسِكَكِهم وصنودهم ومعاولهم وأظافر أياديهم وعرق جباههم وسواقي “نبع الندامة” و»نبع المطران» يعاونهم ويعضدهم يدًا بيدٍ وقلبًا على قلبٍ شركاؤهم “شركاء الشلش” كانوا منهم وفيهم سكنوا منذ أجداد أجدادهم حارات الدّير من حارة “بيت شومار” إلى حارة “بيت ليشع” إلى حارة “بيت خليل” إلى حارة “بيت صليبا”!
مثلما كان دير قزحيا موطنًا وموطئًا لأول مطبعةٍ دخلت إلى الشرق، هكذا حوَّله رجالُه ذوو الأساكيم الملائكية والوزنات الفائضة إلى أوَّلِ مدرسة مهنيّةٍ تمدَّدت داخل مماشي بناء الدير القديم الشهيرة والمعروفة عند أصحاب الذاكرات القزحيّاوية بمماشي الصنايعية!
الراهبُ المعلِّمُ والشعب التلميذُ ينتقلون من صَفٍ إلى صف أو من ممشى إلى ممشى. ممشى البنّائين، ممشى النجّارين، ممشى الحدّادين، ممشى الخيّاطين، ممشى السكّافين، ممشى تربية دود القز والحياكة، ممشى البيطرجيّة، وممشى صقل سكك وصنود الفلاّحين.
داخل هذه المماشي المباركة تخرَّجت أمَّةُ الناذرين الصمود في نعمةِ كفاف الخبز والكرامة، واُمَّةُ السَّاعين للبقاء ضمن حدود أرض الآباء والأجداد!
شرقي الدير يقوم حتى اليوم بناءُ “المَعرمة” الأثري، فيه تعلَّم المُبتدئ الأخ نعمة الله كسّاب الحرديني مهنة عَرمِ الكُتُبِ وتجليدها وتأطيرها واتقانِ رَصفِ أوراقِها صفحةً صفحة ومُعظمُها من التي نالَ فيها رهبان كثيرون شهادات البرارة والقداسة وعلوم الملكوت.
الأناجيلُ بالأحرُف الكرشونية ومُشتقات كتب الصلوات بلغة الرب يسوع الآرامية، مع كُتُبِ أمجاد مريم وسِيَرِ الأباء الكبار قَد عُرِمَت داخل هذه المعرمة، وهذه الحُرفَةُ المعرماتيّةُ هي التي اتقنها وتابعها وفضّلها على جميع المِهن مُعلّمُ كفيفان وملفان القديسين الشاطر نعمة الله كسّاب الحرديني!
من مماشي الصنايعية داخل دير قزحيا القديم نال الراهب عن جدارةٍ ربّانيّةٍ بشريَّةً نِعمةَ تلقيبِه بالمعلّم. المعلم الذي بنى وطنًا وأعمارًا وعمرانًا وأجيالاً وبقاءً داخل وَعرٍ لم ترتادُه قبلاً إلاّ وحوش البَرِّ وطيور الفلاة ولم تطأه إلاّ الرياح وأنوار شمس الرب!
منذ ذلك الزمان المغبوط كان شعب الأديار يُسلِّم على رهبانها بسلام: “المجد لله يا معلمي”!!!
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]