لقد استرسلَ حامِلو الألقابِ في تكثيفِ الشُّروحِ حولَ ماهيّةِ القهر، فهو الإمعانُ بالإستبداد، والتسلّطُ ظُلماً، والإجبارُ بالقَمع، والتّطويعُ بالغَلَبَة… بمعنى أنّ القهرَ هو إعدامٌ مشهودٌ للحريّة، وإفراغٌ للحقِّ من معناه، واغتيالُ أصحابِ الرأيِ بالإستقواء، ووضعُ الحناجرِ تحت المقصلة. وكلُّ ذلك يقودُ، بداهةً، الى أنّ القَهرَ مُلازِمٌ للشرّ، حتى قالَ العَرَبُ، في مراجعِهم، إنّ الشّريرَ من الناسِ يُدعى القُهَر.
هذه، بالذات، هي قاعدةُ الحكمِ، عندَنا، الذي يَقهرُ ناسَه بسلطانِهِ وقدرتِه، ويُصَرِّفُهُم على ما يريدُ، طَوعاً، وعَسْفاً، ويُخضعُهم مُكرَهين لِما هو خارجٌ عن إرادتِهم. وقد صَنَّعَ حكّامُنا عقيدةً، أو إيديولوجيّةً تُجَنِّسُ القَهرَ لبنانياً، لتشويهِ سمعةِ بلدِنا، ولتنزيلِهِ في قاموسِ التردّي الإنحطاطي، ولتَعفينِهِ في كهوفِ العقمِ السّلطوي، ولإدراجِه في جدولِ سَحقِ الإنفتاحِ على مدى الحريّاتِ، ما يُثبِتُ أنّ طبقةَ الحكمِ، في بلادِنا الرّهينة، هي حيثيةٌ رجعيّة، مجرمة، تقتصُّ من الحقوق، وتُحسِنُ مبدأ الظّلم، وتختمُ على حقوقِ الناسِ بالشَّمعِ الأحمر. وفي هذا الزمنِ الرّديءِ، بالذّات، كأنّنا بدمعةِ الوطنِ تحملُ الى فاسِدي الضّميرِ عِتابَها، وتقول : ما ظَنَنْتُ، بعدَ قَسَمِكم بالحفاظِ على كرامتي، أنّكم تَستَجيزونَ مثلَ هذا.
وبعدَ أن تركَ القهرُ بَصمتَهُ في جدارِ الوطن، وزَوّدَ مخزونَه في نفسِه، تَجَرَّأَ القابِعونَ على رِقابِ الشَّعبِ المُعَنَّف، بظُهوراتٍ إعلاميّةٍ يدعون، فيها، الى البديهيّاتِ الوطنيّة، من سِلمٍ، وتَعَفُّفٍ، ووَعيٍ وطنيّ، وأُخُوّةٍ، وإعتدال…حتى لنَحسَبَ أنّنا نستمعُ لطوباويّينَ أسلموا أنفسَهم الى بركاتِ السّماء، في تضليلٍ موصوفٍ يُبَطِّنُ التكاذبَ، والخداع، والمراوغة، ليَصدقَ، في سلوكِهم، القَولُ المأثور : إِسمَعْ تَفرَحْ، جَرِّبْ تَحزَنْ.
من أَقبَحِ ضُروبِ القَهرِ، عندَنا، وأخطرِها، هو التّنازلُ عن الهويّةِ اللبنانيّة، بمَحمولِها الكيانيِّ، والحقوقيِّ، والإيديولوجيّ، والوطنيّ. وهذا يعني، تحديداً، أنّ مَنْ في السّلطةِ يُغَطّون سَحقَ السيادة، والقضاءَ على الإنتماءِ للأرضِ، وتسليمَ الوطنِ الى وَصيٍّ يستعمرُه، وتَغريبَ لبنانَ عن أصولِهِ وقِيَمِه. كما أنّ الأبواقَ المأجورةَ، وهي صدى صَوتِ سيّدِها القابعِ وراءَ الحدود، لا تَخفى علينا أهدافُها المُخَرِّبة، والتي لم تَعُدْ مُقَنَّعَة، لافتراسِ الوطن، وتَجييرِه الى احتلالٍ ليسَ مكتومَ القَيد، ولا يتطلّبُ تحصيلاً لعِلمِ الغَيبِ لتُجلى أسرارُه، وتُكشَفَ حقيقتُه.
إنّ سلوكَ الحاكمينَ يَحقُّ أن يُسَمّى تَحريرَ القهر، فكَبحُ الحريّات، وشَلُّ التّعبيرِ عن الرأي، ونُمُوُّ بطانةِ السّوءِ السلطويّة، والإعتداءُ على عَرَقِ الجَبين، وحرمانُ الناسِ من أَبسَطِ الحقوق، هي انكشافٌ لجريمةٍ مفصليّةٍ تقضي على الصحّةِ الوطنيّة، وتَقتَصُّ من آمالِ النّاسِ بعَيشٍ رَغدٍ، وتُسَمِّرُ البلادَ، بالفساد، في إحباطٍ قاتِل، وإبطالٍ للمُرتَجى في التّعافي. إنّ استغلالَ السّلطةِ من جانِبِ المُتَرَبِّعينَ على سُدّاتِها، بالنّهبِ، والزّبائنيّة، والسّمسرات، والصّفقات، والإتفاقيّاتِ غيرِ المشروعة، لا يَصلحُ أن يُدعى بغَيرِ هستيريا القَهر.
بين الكآبةِ والقالبِ الثَّوريّ مزاجٌ ينهضُ، تارةً، ويتراخى، تارةً أُخرى، وما الإنتفاضةُ التي بدأَت جديّةً، مُستَنهِضَةً همَّةَ الناس، ومُخَلخِلَةً حنايا الحكّام، سوى البرهانِ الصّارخِ على ما يمكنُ أن يقومَ به الشّعبُ من دَورٍ رياديٍّ فاعِل، في زَجرِ الظّلم، ومَنعِ القهر، وإفشالِ تركيباتِ الفساد، وهَتكِ أسرارِ الغشِّ، والنّهبِ، والغَصب… ليعودَ لبنانُ مُلتَحِفاً رداءَ السّلامِ والسّلامة، يُشتَهى الحَجُّ إليه، وضامِناً لِناسِهِ الأنس، ليتثبَّتوا فيه نَبضاً في كيانِهم. لكنّ الإنتفاضةَ المشهودةَ فُكَّ لَغزُها من معجنِها، وسُلِّمَت مفاتيحُها الى مَن غدرَ بها، من الدّاخل، من جَوقاتِ المصالِحِ، والتبعيّة، وضَعيفي النّفوسِ أمامَ الفلوس… قبلَ أن يَطمسَ ذكرَها، بالوسائلِ المشبوهة، أركانُ المنظومةِ الرّائِجِ احتيالُها، فاختفَتِ الإنتفاضةُ، وتبخَّرَت يافطاتُها، وكأنّها لم تكن.
ينبغي على لبنانَ الحائرِ في أفقٍ سَحيق، ألّا يستسلمَ للحواصلِ السّالبةِ التي أنهكَتهُ، ولِما لَصَقَ في ضلوعِهِ من أسىً، ونَوازِلَ، وكأنّه قتيلُ الهمومِ بينَ الأَحياء، فبالرَّغمِ من المشاهدِ السفّاكةِ التي طَمرَت وجهَه، وأنزلَت سمعتَهُ الى سوقِ الفُجور، ولطَّخَت صيتَهُ بالموبقاتِ، من جانبِ خَبيثي السّلطة، المُدمنينَ على القهرِ، والقمع، عليهِ أن يَزيحَ قُشورَ الغربةِ عن كرامتِه، ويعودَ الى رِواقِ العزِّ، ويُقيمَ السّاعةَ على شِرارِ الحُكّامِ، فليسَ غريباً عليهِ زئيرُ أنفاسِهِ، وجرأةُ نظراتِه، وهو ليسَ ميتاً لا يَفيق، وأقَلُّ ردّاتِهِ أن يُحفِّزَ شَعبَه على المشاركةِ في الإنتخاباتِ، بكثافة، لأنّها الوعدُ الوحيدُ بالتّغيير، وأن يطالبَ بتطبيقِ القراراتِ الدوليّةِ المُتَوافِقَةِ مع بُنودِ الدّستور، وألّا يسمحَ بِدَفنِ السفّاحينَ الفاسِدين في ثَراه، حتى لا يُلَوَّثَ تُرابُهُ بطاعونِهم.