إلى أن يزفَّ اليومُ الثالثُ، وتُزاحَ رموزُ النّارِ، والجَمرِ، والبشاعةِ، والجلجلة، هو الصَّومُ، في زَيتِهِ الكثيرِ الصَّفاء، يُحيي في الرّجاءِ نقاءَه، ورُواقَه، ليُعيدَنا زائرينَ أعزّاءَ الى مَسارِ يسوع، في حِلَّةٍ تَهيمُ بالإيمانِ الذي يكونُ الأَبقى فيها.
هنالكَ مَنْ يصفُ الصَّومَ بالمحاولةِ السّاذجةِ التي توارثَتها الأجيال، ومَرَدُّها الى استعدادٍ فطريٍّ بالتزامِ الدِّرايةِ في الشَّبَع، واختيارِ صُنوفِ المَطاعِم، وبِغَضِّ اهتمامٍ بحَجَرِ زاويةِ الصَّوم، أي فَتحِ ما أُغلِقَ من سرائرِ النّفوس، وكأنّ هؤلاءِ يجهلون أنّ معرفةَ الوزنِ والقافيةِ لا تَخلُقُ شاعراً.
وهنالكَ مَن يعتبرُ الصَّومَ رأسَ الطّقوس، وهذا غيرُ ما اصطُلِحَ عليه، واعتُنِيَ بتدوينِهِ في أصلِ الصَّوم. وربّما قادَهم تَعَقُّبُ أبوابِهِ، والتَعَمُّقُ في خباياه، ومَغازيهِ، الى ما واتاهم اقتناعُهم بأنّه جنَّةُ الدّيانة. وربّما أَودَت بهمِ المقارنةُ بين الطّقوسِ، الى التأكيدِ على انفرادِ الصَّومِ بنَقلِ الصّائمِ الى عالَمٍ نبيلٍ، حقيقتُهُ ليسَت مُستَهلَكَة.
وبالرَّغمِ من أنّ الفريقَينِ يعتبرانِ أنّ الصَّومَ موضِعٌ يُقصَد، وله نُعوتٌ ما اختلفَ في شرحِ وجوهِها العامةِ أَحَد، لكنَّ أيّاً منهما لم يُحرِزِ السَّبقَ في مساندةِ مفهومِ الصَّومِ في عالَمِهِ الأَخّاذ. فالصَّومُ يفرضُ شرارةَ أحاسيس، وطقوسَ دهشة، هي ناتِجُ هُنَيهةِ التأمّلِ التي لا تقفُ على الحِيادِ في الطَّوافِ على الحقيقةِ التي توفِّرُ للحياةِ ما أَنتجَتهُ من المَدلولِ في مُدرَكاتِ الجهازِ المعرفيِّ، وفي نظامِ فَهمِ نزعةِ الأُلوهةِ في الإنسان.
إنّ الصَّومَ، في وَثباتِ الذِّهنِ الى التأمّل، يقدِّمُ مبرِّراتٍ للحياة، داحِضاً مَقولةَ أَنّ الحقيقةَ هي أَنْ لا وجودَ لحقيقة، من هنا، يجدُه الذين يُقِرّون بأنّ عالَمَه عُلْوِيّ، يتمتَّعُ بامتيازِ الحقّانِيّةِ الحَصري. لكنّه ليس إعجازاً، بِقَدر ما هو رسالةٌ لها دَويها، تُشبِهُ فيضَ الوحيِ الذي يقومُ مقامَ الحواس، ويخطُّ سطورَ الإدراكِ الصّافي، حتى قيل: إنّ التأمّلَ هو الرُّؤيا النّاطقة.
إنّ التأمّلَ هو المُقيمُ الدائمُ في ثَنايا الصَّوم، أو الأَكثرُ سلطاناً في نُسكيَّتِه، وعلاقتُهما تَلازُميّةٌ، وهو ليسَ من الغرباءِ الطارِئين عليه، لذلك، لا يتمُّ الصَّومُ إلّا به. وهو ليسَ قِشراً ليُستَغنى عنه، أو حَشواً غيرَ مُستَملَح، إنّه نعيمُ الصّائم، والذي ليسَ للمادةِ، فيه، ظِلٌّ، ولا يَد. وهو ليسَ شَطحاتٍ فانتيزيّةٍ، أو انخطافاتٍ مقصودةً، بقَدرِ ما هو أَصابعُ تُمسكُ بوَمضاتِ الرّوحِ، تُدخِلُها في غرضٍ شعوريٍّ غيرِ عاديّ، لتُثيرَ انطباعاتٍ متساميةً تُحَسُّ بالذَّوقِ، وتُدرَكُ بالنّفس.
التأمّلُ هو رُكنُ الصَّوم، لا ينازعُهُ في عِقدِهِ مُنازِع، وإنْ غابَت ديناميّتُهُ، لَحُبِسَ الصَّومُ في الصَّنعة، وكانَ مُجَرَّدَ مرحلةٍ شكليّة، تسودُها اللَّمسةُ النَّمَطيّة، من دونِ أيِّ انتقالٍ الى أُفقٍ واسعٍ، بعيدٍ عن الشّكلِ التّكراريِّ المُستَهلَك. إنّ مشهديّةَ الصَّومِ لا تتحقَّقُ إلّا بالتأمّل، أي بتَوَقّدِ الخواطر، وبِلُطَفِ الأفكارِ التي يَشبكُ بعضُها بعضاً، في رحلةٍ بعيدةِ الغَورِ، تتسامى على الضّيق، وتأخذُ بالصّائمِ الى حالةِ انفعالٍ تُمازِجُ قلبَه، فيتنفَّسُ ارتياحاً، وسعادة.
ليس للصَّومِ أن يعيشَ وجودَه التّاريخيَّ الإِرثيّ، بلا مفتاحٍ لمجالِ الخروجِ من عالَمِ الوزنِ، أو الإنسلاخِ عن تأثيرِ جاذبيّةِ التّقليدِ، ليندفعَ في مسيرةٍ صوبَ نَوعٍ من الحُلولِ مع واجِبِ الوجود. وعلى بَرَكةِ الحُلولِ، ينسى الصّائمُ ما سواه، وينفضُ عنهُ تُرابَ ” هابيل “، ويقرأُ النّورَ كما تكتبُهُ الشّمس. وهكذا، لا يلبسُ الصَّومُ ثيابَ العاديّة، فيخرجُ من عُبوسِ العَبَث، ويُصبحُ مَدّاً مُتَتابَعاً لتَوَهُّجِ الطّهرِ، والقِيَمِ المحروسةِ بالرقيّ، وامتشاقِ شُحنةِ القُدسيّة، فيندثرُ، به، عصرُ الحجر، كما تندثرُ همزةُ الوصلِ بينَ الشَلّالِ وخَريرِه.
ما أَروعَ أن يُطَعَّمَ بالذَّهَبِ قضيبُ الفضّة، أو أن يُغمِضَ النّسيمُ جَفنَيهِ على نَفحاتِ العطر، وهذا، بالذات، ما يحصلُ للصّائمِ في اتّصالِهِ مع ” الفَوق ” الذي يصيرُ، منه، للرّوحِ روحاً تُشيعُ الحُبورَ، وتَحفظُ اللَّحظةَ من القلقِ، والغُربةِ، وضَياعِ الفرح، وتُسكِبُ على الوجدانِ إحساساتٍ وخواطرَ لا يُحسِنُ الصّائمُ أن يرسمَها بالقلم.