الكنيسة المارونيّة همزة وصل بين الكرامة ولبنان

حجم الخط

ليسَ الكلامُ، وحدَه، يجري ببعضِ مقاطعِهِ مجرى الأمثال، فرُبَّ شَعبٍ، كلَمعِ السَّراب، هو أَبلَغُ من الألسنةِ الفِصاح، يَبلغُ حيثُ تُقَصِّرُ الكلماتُ في الإبانةِ، والدّلالة، خصوصاً عندما يكونُ النّضالُ الوطنيُّ هو المسألةَ التي يَشُقُّ لها صبحُ الكرامة.

لقد أخمدَتِ الكنيسةُ المارونيّةُ نارَ الاشتياقِ الى النّضالِ، عندما أَلهَبَت أَنفاسَهُ بِطولِ عشرةٍ بينها وبينَه، فهما، دوماً، في إلفةٍ لا يشوبُها تنافرٌ أو شِقاق. من هنا، كان لها ظهورٌ مُبهِرٌ يُعلِنُ أنّ لها نزعةً آسِرةً في بابِه، فحماستُها أقوى، وروحُها أَظهَر، وإذا كان تَحبيرُ الميزاتِ، في النّضالِ الوطنيِّ، مقاماً حقّاً لكلِّ مَنْ يجترحُهُ، فكيف به للكنيسةِ المارونيّةِ التي يتمايزُ نورُها في صَنعةِ الرّيادة ؟

إنّ الكنيسةَ المارونيّةَ صفحةٌ كَتبَها الزّمنُ في غايةِ الجودة، فجعلَنَا، بذلك، ننتظرُ عندَ المساءِ صباحاً. ولمّا كانت غيرتُها على الكرامةِ فطريّةً، تَدَّخِرُها كأَنفسِ الذَّخائرِ التي ترتبطُ بقيمةِ الإنسانِ الأزليّة، كانَت حالُها، معها، حالَ اللُّؤلُؤِ مع العَقيق، فهي استماحَت خزائنَها حتى لا يكونَ في غَلَّتِها ظَمَأ، أو يتقوَّضَ مقامُها في عِرفِ البطولة.

إنّ وجودَ الكنيسةِ المارونيّةِ مُتَّشِحٌ بإِزارِ لبنانَ الذي تهيَّأَ في جُبلتِها حُبّاً أَفعَلَ من السِّحر، والحبُّ إذا ما اعترى القلبَ فليسَ يزول. والوطنيّةُ في خطابِ كنيسةِ مارون لَحنٌ لا يتعبُ، معه، حِسُّ الحماسةِ والثّورة، كالسّيفِ الذي لم يتعبْ له كَفُّ ضارِب، فالحماسةُ للوطنِ مشكولةٌ على خَصرِ هذه الكنيسة، ففي كلِّ لمحةٍ من تاريخِها نَفَسُ حماسةٍ، هذه التي تؤجِّجُ الوعيَ لمفهومِ الولاء، لتَصلُحَ، في كَنفِهِ، ذريّةُ الإنتماء.

إنّ مواقفَ الكنيسةِ المارونيّةِ، كلَّما اشتدَّت المَكارهُ، علاماتٌ تزرعُ الوطنَ في النّفوس، وحَلٌّ نرى به ما نراه بالنِّعمة، ومصافحةٌ لِعَصَبِ الأرض، ومساهَمَةٌ في صناعةِ أُسُسِ الذّاتِ الوطنيّة. فلبنانُ، في عِرفِ كنيسةِ لبنان، مفهومٌ محوريٌّ للوجود، وحِليةٌ كونيّةٌ لم يصنِّعْها إنسان، ومرآةٌ حيَّةٌ لعنايةِ السّماءِ بنا، من هنا، نشأَ شيءٌ من الحُلولِ بينَ الموارنةِ والوطنِ، وأظهرَت تضحياتُهم، واندفاعُهم الإستشهاديُّ في سبيلِ كيانِهِ الحرّ،  حقيقةَ اعتبارِ أنّ حُبَّ الوطنِ يصنعُ التّاريخ، ولا يتفرَّجُ عليه.

لبنانُ، مع الموارنةِ، له طَعمٌ مُغايِر، فهو ليسَ صورةً مُسَطَّحةً رسَمَها صَنَمٌ باهِتٌ بريشةٍ وَثَنيّة، إنّه حالٌ تنامُ على الضَّوءِ بحيثُ لا يمكنُ للذّاتِ، أمامَها، إلّا أن تشعرَ بهزَّةٍ وجدانيّةٍ ترسمُ رابِطاً لا يُتَنازَلُ عنه، فلا خطَّ تَماسٍ بين المارونيّةِ ولبنان. وحدَها كنيسةُ الموارنة، لم تُذَلِّلْ خدَّها في أيِّ ظَرف، فهَلَّ على وجهِها عيدُ الوطن، ربّما لأنّ الأصالةَ في عنصرِها، أو لأنّها من غيرِ المُشرِكينَ في الوطنيّة، أو لأنّ آثارَها، فيها، ليسَت عِرضةً ليَسهُلَ تَضييعُها.

عندما طَوَّقَت دماءُ أبناءِ الكنيسةِ المارونيّةِ عُنقَ لبنان، بالشَّهادة، ففاحَ منها عَبَقٌ لا تحتملُ تَنَشُّقَهُ نُحورُ العاديّين، لم يكنِ الوطنُ ليتكلَّفَ المَسيرَ إليها لولا خزائنُ الصّدقِ في التّضحية، ومسالِكُ الإخلاصِ في الإنتماء، وصفاءُ الرّتبةِ في الكرامة، ومحامدُ الحقِّ في الولاء، فهذه القِيَمُ هي التي جعلَتِ المارونيّةَ مُلتَحِفَةً برداءِ الكِبَر. ولمّا كان أتباعُها مطبوعينَ بشخصيةٍ صلبةٍ، مستقيمةٍ، متوَقِّدةِ الوطنيّة، لا تُهادنُ في عناوينَ تسري على سيادةِ الكيان، وقُدسيّةِ الهويّة، ومَناقبِ الحريّة، كان من البديهيِّ أن يميدَ بهم الكَلَفُ في الحرصِ على لبنانَ، والإفراطِ بالتعلّقِ بهِ حقيقةً يستحيلُ صَبغُها، فأَقتَمُ ألوانِ الجريمةِ، عندَهم، وأَشنعُ عدوانٍ على الوطنِ، هو الخيانةُ التي تشبهُ المِعولَ الذي يهدمُ كلَّ بناءٍ مهما كان راسخاً.

الكنيسةُ المارونيّةُ ليسَت فرعاً من فروعِ لبنان، بقَدرِ ما تشكِّلُ منه المَركزَ، فهي أنتَجَت عنه فكرةً متجاوزة، من أصلٍ إلهي، لذلك، روَت أرضَهُ بدماءٍ هي إضفاءُ حياةٍ على حياتِه، كالإيمانِ بأنّ الصلاةَ المنقوشةَ في تماثيلِ الآلهة، هي تَضَرُّعٌ دائمٌ لحِفظِ سرمديَّتِهم. من هنا، فالكنيسةُ المارونيّةُ مَزارٌ وطنيٌّ، قيمتُه في وَفرةِ الوافدين إليه، يتناشدونَ التّهاليلَ وكأنّهم يلثمونَ مهدَ القيامة، وهي ليسَت عِبئاً على لبنانَ، كما يُشيعُ بعضُ الرّاسِخينَ في شِحِّ الوطنيّة، والواقِعينَ في جِبِّ العمالة، والمُستَمتِعين بثقافةِ تَقويضِ الوطن.

الكنيسةُ المارونيّةُ كانَت، ولمّا تزلْ، بابَ الدّنيا الى لبنان، وهَلَّ غَيثِ الرقيِّ على أرضٍ نابِتَة، فاحذَروا انحباسَ مَطَرِها الذي صانَكم من القَحطِ، والجَدبِ، والإِمحال، حتى لا تعودوا الى عصورِ الجاهليّةِ.

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل