العملات الرقمية ملاذ آمن للبنانيين… هل تُشرَّع؟

حجم الخط

تخيّل أنك في ظل هذه الأزمات الاقتصادية والمعيشية اليومية، وتآكل عملتك الوطنية مقابل الدولار بين ساعة وأخرى، يمكنك الحصول على مئات الدولارات بطريقة سريعة، تؤمن لك المسكن والمأكل والرعاية الصحية وحتى العقارات والسيارات والخدمات الترفيهية مقابل امتلاك كمبيوتر أو هاتف… فقط! ومن خلال تطبيق بسيط أشبه بمحفظة ذاتية تستثمر فيها بضعة دولارات لتتحول في غضون أشهر الى مئات أو آلاف الدولارات. كيف؟ هي العملات الرقمية الافتراضية التي تنافس حالياً أقوى عملة في العالم، الدولار.

وما لا شك فيه أن العملات الرقمية أو التعدين (mining) بدأت تستحوذ على اهتمام عدد كبير من الشباب ليس فقط في لبنان إنما عالمياً، باعتبار أنها طريقة سريعة وسهلة لجني آلاف الدولارات بطريقة شبه قانونية، أي لا تحكمها قوانين ولا تُعرّض متداوليها للملاحقة القانونية، إلا بحالة الاحتيال والنصب على الآخرين.

ومع طرح “بتكوين” العام 2009، وهي العملة المشفرة الأكثر شهرة بين أكثر من 4500 عملة في العالم، بدأت ظاهرة تداول العملات الافتراضية تنتشر في لبنان قرابة العام 2015، لتتحول إلى حاجة وضرورة وحتى مهنة لبعض الأشخاص لكسب مئات الدولارات بطريقة سريعة، خصوصاً مع انهيار الليرة لمستويات قياسية وتاريخية مقابل الدولار والطلب الكثيف على العملة الخضراء إثر الأزمة الاقتصادية منذ العام 2019. ومع عدم وجود أرقام محددة لعدد الأشخاص الذين يتاجرون بالعملات الرقمية في لبنان، تشير بيانات جمعتها “Chainalysis” إلى أن لبنان يحتل المرتبة الثانية بعد تركيا، تليه الامارات في المرتبة الثالثة، كأكبر سوق للعملات المشفّرة في الشرق الأوسط، إذ بلغ حجم المعاملات نحو 26 مليار دولار منذ تموز 2020 إلى حزيران 2021.

لكن بين التعدين والتداول، تُطرح تساؤلات عدة حول هذه العملات، وسط خشية من الاستثمار في ملاذٍ يعتبره البعض آمن، إذ كيف للمواطن اللبناني أن يحوّل الأموال التي يجنيها عبر محفظته الإلكترونية (wallet) أو من خلال تطبيقات تداول العملات المشفرة الى دولارات حقيقية بين يديه فيما تقيّد البنوك اللبنانية حساباته المصرفية ولا يستطيع تحويل قيمتها الحقيقية مقابل الدولار الى المصرف ليسحبها لاحقاً؟ فضلاً عن ذلك، كيف يمكن قراءة المؤشرات التي تؤثر على العملات المشفرة للاستثمار في عملة دون أخرى في حين أنها لا تخضع سوى لمعادلة العرض والطلب ولا تحكمها تأثيرات جيوسياسية مثل عملات الدول الأخرى؟

تطبيقات التداول… كيف تعمل؟

توضح المسؤولة عن مبيعات آلات التعدين والاستشارات بالعملات الرقمية في شركة “Bascrypto” أغاتا فخري، أنه “لا يوجد مبلغ محدد لبدء عملية التداول، إذ مع تحميل تطبيق للتداول مثل binance أو Coinbase أو Trust wallet، وهي أكثر التطبيقات المستخدمة في لبنان، يفتح الشخص حساباً خاصاً به ويكون مرتبطاً برقم هاتفه أو حسابه الالكتروني، من دون الحاجة الى ذكر المزيد من التفاصيل. وتبيعه الشركة عملة TETHER المعروفة بـUSDT بمبلغ معين من المال قد يبدأ بـ50$، وهي عملة مستقرة مرتبطة بالدولار الأميركي، وتحافظ على نسبة 1 إلى 1 مع الدولار من حيث القيمة، ويستطيع الشاري من خلالها شراء العملات الرقمية الأخرى الموجودة في السوق”.

وتضيف المستشارة في شركة “Bascrypto” أنّ “فروع الشركة التي تنتشر في الدورة، وعمشيت، وزحلة وحمانة، قانونية وهي تعمل في مجال الصيرفة، إذ يقصد العميل أحد الفروع ليقوم بعملية البيع والشراء، فتأخذ الشركة 2$ أو أكثر حسب المبلغ لتحويل الـUDST الى حسابه من خلال الـwallet address الخاص به، وهو عبارة عن رقم مشفّر لا تستطيع الشركة من خلاله اختراق حسابه أو معرفة كلمة المرور إنما فقط لتحويل المبلغ الذي يريده فعلياً في محفظته”.

وتوضح أنه “من خلال المبلغ الموجود بـUSDT في حسابه يبدأ بشراء العملات الأخرى، مثلاً يمكن شراء بمبلغ 100$، عملة CARDANO المرمزة بـADA بقيمة 10$، وDOGECOIN المعروفة بـXDG بقيمة 20$، إضافة الى 20$ لكل من ETHEREUM وRIPPLE أو غيرها من العملات، وبالتالي عندما ترتفع قيمة هذه العملات في سوق التداول الافتراضية، تبدأ عملية الربح، إذ ترتفع القيمة بنفس النسبة التي وضعها الشخص لشراء هذه العملة وبالتالي يقوم الأخير بتحويل الأرباح الى USDT مجدداً لأنها عملة مستقرة وهكذا يضع ربحه في ملاذ آمن”.

وتعتبر أن “هذه اللعبة أحد الاستثمارات القصيرة (short term investment)، إذ من خلال هذه العملية يمكن ربح دولارات قليلة بوقت قصير، لكن يتحتّم على الشخص مراقبة سوق العملات لحظة بلحظة، إذ قد تنخفض أو ترتفع بالدقيقة ذاتها، لذا فعليه إتمام عملية الشراء على سعر منخفض والبيع على سعر مرتفع بطريقة سريعة”.

وتستدرك فخري بالقول، “يعد استثماراً ذكياً وخطيراً في الوقت عينه، لأن سوق التداول الافتراضي غير مستقر ولا يوجد مؤشرات أو توقعات دقيقة تؤكد أن هذه العملة التي استُثمر بها سترتفع قيمتها السوقية لاحقاً. وبالتالي يمكن أيضاً أن تنخفض، بنسبة 2% مثلاً، فيخسر الشخص أيضاً بالنسبة ذاتها قيمة الأموال التي وضعها للاستثمار فيها، كما قد تؤثر تغريدة للرئيس التنفيذي لشركة تسلا الملياردير إيلون ماسك عن عملة معينة بشكل مباشر وفوري على سعرها أو على سعر العملات الأخرى”.

أما عن الاستثمار بالعملات على المدى الطويل (long term investment)، توضح، أنه “يمكن للشخص شراء عدة عملات مشفرة أو عملة واحدة قيمتها السوقية متدنية، مراهناً على أنها سترتفع في الأشهر المقبلة، كما حصل مع عملة بتكوين التي مع طرحها كانت تساوي بضعة سنتات، فيما لامس سعرها الـ50 ألف دولار العام 2020. وبالتالي لا يقوم ببيعها أو تداولها أو تحويلها الى USDT عندما ترتفع بنسبة ضئيلة”، مشيرة إلى أن “الشخص الذي يريد الاستثمار بالعملات الرقمية أو التداول بها، يحتاج الى شركة أو أحد الأشخاص لتحويل مبلغ معين من الـUSDT إلى حسابه مع عدم قدرته على ربط حسابه الافتراضي بحسابه المصرفي لإجراء التحويلات في ظل الأزمة المالية والمصرفية التي يمر بها لبنان على عكس حال الدول الأخرى. فمثلاً هناك بعض الأشخاص الذين يملكون حسابات خارج لبنان، يقومون بتحويل مبلغ معين من حسابهم الى USDT ليتسنّى لهم لاحقاً سحبه بالفريش دولار في لبنان من خلال شركتنا التي تقوم بشراء عملة الـTETHER منهم عبر التطبيق مقابل الدولار”.

التعدين أو الـmining في لبنان

وفي ما يتعلّق بالتعدين، تشير، إلى أن “الطلب على آلات التعدين (mining) ارتفع بشكل هائل خصوصاً في السنتين الأخيرتين، وهي كناية عن آلة صغيرة يتم ربطها بالحاسوب، ويتم أيضاً إنشاء حساب للذي يقوم بالتعدين ومحفظة له تعرف بـwallet مرتبطة بتطبيق معيّن لتداول العملات، كالتطبيقات التي ذكرناها سابقاً، ليتسنّى له تداول العملة وجني المزيد من المال للعملة أو العملات التي يقوم بتعدينها، من دون الحاجة الى وضع مبلغ معين أولاً للتداول”.

وتلفت، إلى أنه “على الرغم من سعر آلة التعدين الباهظ بالفريش دولار، يستطيع المواطن استرداد سعرها بعد حوالي 6 أو 7 أشهر، وعندئذٍ يبدأ بجني أرباح صافية بالدولار”، موضحة أن “هناك آلات متخصصة لتعدين عملة البيتكوين ودوجكوين والعديد من العملات، وتتفاوت أسعارها حسب العملات المرجوّ تعدينها، غير أنها تستهلك كمية كبيرة من الطاقة الكهربائية والإنترنت”.

وتضيف، “أسعار آلات التعدين تبدأ بـ800$ وقد تصل الى 30 ألف دولار، حسب كمية الطاقة والانترنت التي تستهلكها والمردود المالي الذي تجنيه الآلة. علماً أن الآلة المخصصة للبيتكوين تعتبر الأغلى وتستهلك طاقة أكبر، لأن قيمتها السوقية حالياً تتخطى العملات الأخرى. وهكذا دواليك، كلما ارتفعت قيمة العملة الافتراضية في سوق التداول يرتفع سعر الآلة المخصصة لتعدينها”.

وتلفت فخري، إلى أن “العديد من المحلات في لبنان بدأت ببيع منتجاتها أو خدماتها مقابل الـUSDT أو عملات رقمية أخرى. وعلى سبيل المثال، يمكن استئجار شاليه في الأرز والدفع عبر تحويل مبلغ معيّن من المال إلى حساب صاحب الشاليه، أو شراء هاتف، أو العشاء في مطعم، أو حتى عقار مقابل العملات الافتراضية”، معتبرة أنه “على المدى البعيد سيصبح شراء أغلبية المنتجات وتأمين الخدمات مقابل العملة الافتراضية بدلاً من العملات التقليدية المتداولة حالياً”.

الليرة مقابل عملة مشفرة قريباً؟

في المقابل، يوضح الباحث في الاقتصاد خبير المخاطر المصرفية محمد إبراهيم فحيلي، أن “كل الاستثمارات إجمالاً فيها مخاطر، إنما الاستثمار بالعملات المشفرة يتطلب تقنيات وتكنولوجيا حديثة، بالإضافة إلى انترنت سريع وكمية كبيرة من الطاقة الكهربائية”.

بالتالي، يضيف فحيلي، “ترتفع المخاطر مع عدم وجود سلطات رقابية على التداول أو التعدين، ومع تأثرها المباشر بتقلبات واضطرابات غير متوقعة، إذ لا يمكن توقع هبوط أو ارتفاع عملة معينة للاستثمار مسبقاً فيها”، لافتاً إلى أن “انتشار جائحة كورونا وفرض حكومات عدة الحجر الصحي على السكان، حفّز الانخراط في هذا العالم الافتراضي. أما في لبنان، فارتفع الطلب عليها مع اشتداد حدة الأزمة الاقتصادية وانهيار الليرة مقابل الدولار”.

ويشير، الى أن “العديد من الدول لا تفرض قيوداً أو قوانين على التداول بالعملات المشفرة، فتحوَّل التداول بها إلى نعمة أو بارقة أمل لمبيّضي الأموال والمجموعات الإرهابية، إذ يصعب معرفة من يقوم بتحويل الأموال. والدليل على ذلك، أن الولايات المتحدة تتجه حالياً إلى وضع قوانين صارمة على العملات الافتراضية، منعاً لأن تستخدمها روسيا للتهرب من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل الدول الأوروبية وحلف الشمال الأطلسي (ناتو)، جرّاء عمليتها العسكرية في أوكرانيا”.

ويلفت، إلى أنه “من الصعب جداً معرفة حجم التداول في منطقة جغرافية معينة، خصوصاً إذا كان عبر منصة أميركية أو أوروبية افتراضية، لأن لا مركزية لها. وبالتالي تُطرح علامات استفهام عدة حول حجم تداول العملات المشفرة في بلد معيّن”، محذراً من أن “العديد من المسؤولين الكبار، والشركات والتنظيمات الإرهابية التي تُفرض عليها عقوبات، يلجؤون الى العملات المشفّرة للتهرب منها وتفاديها، وبالتالي لا يمكن ملاحقتهم أو محاسبتهم”.

وعلى صعيد التداول الرقمي في لبنان، يشير فحيلي، إلى أن “المواطن لا يستطيع التوجه الى العملات المشفرة أو التعدين، في ظل ما يعانيه البلد من أزمة كهرباء وتقنين قاسٍ للمولدات الخاصة مع الارتفاع الجنوني لكلفة المازوت”، معتبراً أن “لبنان على عكس الدول الأخرى، يواجه تحدّيات تفوق الحدود الطبيعية، لأن المتطلبات الأساسية والبنية التحتية التقنية الواجب توافرها لتداول العملات الرقمية أو تعدينها غير موجودة”.

بالتالي، “تصريحات السلطة النقدية في لبنان عن الاتجاه الى العملات المشفرة يعتبر باطلاً ولا يستند على أمور ملموسة مع غياب متطلباتها”، وفق فحيلي، مضيفاً، أن “البنك المركزي للسويد حاول التوجه الى العملات المشفرة من خلال اعتماد إحدى العملات كوسيلة للدفع في التبادل التجاري، وباءت محاولاته بالفشل”.

ويشير فحيلي، الى أن “هذا التوجه يتطلب العديد من الدراسات والقوانين اللازمة لضبطها ومراقبتها، إذ إن كل عملة لديها مواصفات وبعضها لا يستوفي شروط العملة الحقيقية”، لافتاً إلى أنه “في حال نجحت الدول بتطوير وإدخال العملات المشفرة الى السوق التجاري، يتحتم عليها أن تضع قوانين واضحة حول كيفية نقلها من المصرف المركزي إلى المصرف التجاري، ومن ثم الى التاجر أو المستهلك، أو من المركزي مباشرة إلى التاجر أو المستهلك، وفي هذه الحالة يجب أن تتوفر المحفظة الالكترونية (electronic wallet) التي تتيح للمواطن الاحتفاظ بالعملة المشفرة”.

ويشدد، على أنه “تقنياً، تتطلب المسألة بنية تحتية متطوّرة توفّر للمستهلكين الانترنت والكهرباء على مدار الساعة. ولكي يستطيع المستهلك استخدامها على صعيد الاقتصاد، يجب أن تكون كل نقاط البيع مجهّزة لاستقبال العملة المشفرة”، مشيراً الى أن “الكلام عن هذا موضوع أسهل بكثير من التطبيق الفعلي”.

ويؤكد فحيلي، أنه “في لبنان تحديداً، يبقى الحديث عن اعتماد العملات المشفرة بعيداً كلياً عن الواقع مع غياب البنية التحتية التقنية لها، وسط مخاوف من أن تنافس العملة الوطنية أو العملة المصرفية، أي الشيكات المصرفية وبطاقات الدفع”، مضيفاً أن “الظروف الاقتصادية والتقنية والنقدية تحول دون اعتماد عملة مشفرة بشكل رسمي في بلدنا”.

 

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل