كتب هشام بو ناصيف في “المسيرة” – العدد 1727
تتواتر أخبار منذ فترة عن تزايد نسبة اللبنانيّين الذين قرّروا العزوف عن التصويت بالانتخابات القادمة لعدم القناعة بجدواها؛ في دراسة أجرتها مؤسسة كونراد اديناور ستيفتونغ مؤخّرا، قال حوالى 35 في المئة من المستطلعين أنّهم لن يصوّتوا. كما يحاجج ناشطون سياديّون بضرورة مقاطعة الانتخابات النيابيّة من أجل «سحب الشرعيّة» عن المجلس القادم، وعن السياسات المرتقبة لـ»حزب اللّه» فيه.
التعب من المرحلة الحاليّة مفهوم تمامًا، وكذلك القلق من الآتي. يبقى أنّ منطق الإستنكاف والمقاطعة لا يستقيم للأسباب التالية:
أوّلاً، الإعتراف الدولي بالانتخابات يعطي المجلس النيابي شرعيّته، وهذا الإعتراف مرتبط بحسابات اللاعبين الخارجيّين ومصالحهم، لا بنسب الإقتراع. للتذكير: صوّت أقلّ من عشرين في المئة من اللبنانيّين في انتخابات العام 1992 النيابيّة؛ في قضاء جبيل مثلاً، إنحدرت نسبة التصويت الى أقلّ من واحد في المئة. ولكنّ أحدًا لم ينزع الشرعيّة من المجلس النيابي بعد الانتخابات، ولا تمنّعت الدول الخارجيّة عن التعاطي معه والنظام المنبثق منه بشكل طبيعي. كلّ ما فعلته المقاطعة هو تسهيل فرز نخبة سياسيّة مطواعة تمامًا للإحتلال السوري آنذاك، خصوصًا في المناطق المسيحيّة. باختصار، نجحت المقاطعة شعبيّا عام 1992، لكنّها فشلت سياسيّا؛ ولا يجوز تجاهل نتائج التجربة قبل التفكير بتكرارها. أكثر من ذلك، الشرعيّة الشعبيّة بالمجتمع اللبناني تمنحها الطوائف لأحزابها. نعلم سلفاً أنّ الثنائي الشيعي سيحصد مجدّدا أصوات غالبيّة الناخبين الشيعة؛ تاليًا، لن يمكن لأحد التشكيك بحقّ «حزب اللّه» و»أمل» تمثيل طائفتهما في النظام اللبناني. أقصى ما يمكن للمقاطعة فعله إيصال ممثلّين ضعفاء عن المكوّنات الأخرى، مقابل المشروعيّة الشعبيّة الأكيدة للثنائي. لا يفعل هذا، لو حصل، سوى زيادة الخلل بموازين القوى، علمًا أنّها مختلّة أصلاً بسبب سلاح «حزب اللّه».
ثانيًا، منذ عقود، حوّل الثنائي «حزب اللّه ـ أمل» قبضته على السلطة اللبنانيّة الى ماكينة زبائنيّة كبيرة تؤمن الخدمات والوظائف للمناصرين، وهو استعمال للمال العام يستفيد منه أيضًا موالوهم من المسيحيّين والسنّة والدروز. ويضيف «حزب اللّه» الى ما سبق توظيف الآلاف في مؤسّسات خاصّة به تموّلها إيران. يعني هذا أنّ هناك شبكة كبيرة من زبائن النظام ينطلق منها في معركته كناخبين مضموني الولاء مصلحيًّا. بمواجهة هؤلاء، التعويل هو على ما بقي من طبقة وسطى القادرة على التصويت سياسيًّا لا زبائنيّا، وعلى المغتربين. ولو قاطعت هذه الفئات، بينما توجّه زبائن النظام زرافات الى صناديق الإقتراع، ستكون النتيجة قوّة مضاعفة له، مقابل تراجع الصوت السيادي.
ثالثاً، وفّر تفاهم مار مخايل غطاء مسيحيًّا كبيرًا لـ»حزب اللّه» لا تزال مفاعيله مستمرّة الى الساعة. هذا التفاهم مكّن الحزب من جوهر السلطة بلبنان، بينما يلهو حلفاؤه بقشورها. والحال أنّ قسمًا متزايدًا من المسيحيّين بات متنبّهًا الى الأثمان الكبيرة التي نتجت عن إحكام «حزب اللّه» قبضته على البلاد، بما فيها عزلة لبنان عن الغرب والخليج، والعقوبات على رجال أعمال مسيحيّين، وانهيار القطاع المصرفي الذي كان دورهم فيه رائدًا، هذا فضلاً طبعًا عن تبعات الهجوم على عين الرّمانة، وانفجار المرفأ الذي دمّر الأشرفيّة خصوصًا، ناهيك عن مناطق أخرى من بيروت. يعني كلّ ذلك أنّ الانتخابات فرصة لتقليص الغطاء المسيحي المعطى للحزب، إن لم يكن سحبه تمامًا ممكناً لأنّ تراجع شعبيّة التيّار الوطني الحرّ، وهو أكيد، لم يتحوّل الى إنهيار تام بعد. المواجهة مع الحزب لن تحسمها ضربة قاضية، أقلّه، ليس بموازين القوى الحالية. هذه المواجهة، بالحقيقة، معركة نقاط يسجّلها السياديّون، أو تسجّل ضدّهم. إنسحاب الحريري من الانتخابات نقطة ثمينة لمصلحة «حزب اللّه» الذي سيتمكّن من قضم حصّة أكبر من التمثيل السنّي؛ هذا لن ينهي الخطّ السيادي، طبعًا، ولكنّه يضعفه. بالمقابل، لو يتمكّن السياديّون من تحجيم حلفاء الحزب المسيحيّين، يسجّلون بدورهم نقطة ضدّه في المواجهة المستمرّة التي فرضها عليهم.
رابعًا، ما يردّده دعاة المقاطعة عن أنّ السياديّين ربحوا الغالبيّة النيابيّة عام 2005، ومجدّدًا عام 2009، من دون أن يحقّقوا شيئاً غير دقيق. قبل أن تعصف الخلافات بفريق 14 آذار، ويبدأ مسيرة تراجعه المعروفة، رفد الحضور السيادي القوي في البرلمان حضورًا سياديًّا قويًّا بدوره في مجلس الوزراء، ورئاسة سياديّة طوال عهد ميشال سليمان. صورة البلد تجاه الخارج كانت شيئاً، وانقلبت لنقيضه لاحقاً بعد أن قبض «حزب اللّه» على رئاسة الجمهوريّة، ورئاسة الحكومة، والغالبيّة النيابيّة، أي بعد أن خسرت 14 آذار كلّ مكتسباتها. ليس صدفة أنّنا لم نكن معزولين إقليميًّا ودوليًّا لعقد تلى نهاية الإحتلال السوري عام 2005، ولكنّنا اختنقنا تدريجيّا منذ وصل ميشال عون الى الرئاسة عام 2016، وأضاعت 14 آذار غالبيّتها النيابيّة. بوضوح شديد: السعوديّة لن تمدّ يد العون لبلد بات عمليًّا بالمحور الإيراني بحكم تركيبة السلطة فيه. وعمومًا، مواقف الخارج تجاهنا لا تنفصل عن توازناتنا الداخليّة؛ تاليًا، بقدر ما يستكمل «حزب اللّه» إطباقه على تركيبة السلطة، بقدر ما تتعمّق عزلتنا. العكس صحيح: بقدر ما يحتفظ سياديّون بمواقعهم في تركيبة الحكم، ويظهّرون حضورًا شعبيًّا قويًّا، بقدر ما يفهم اللاعبون في المنطقة والعالم أنّ لبنان لم يرفع الراية البيضاء بعد. الفرق بين هذه الحالة وتلك ليس تفصيلا.
خامسًا، هل يريد «حزب اللّه» تحويل سيطرته بالأمر الواقع على البلاد، الى سيطرة دستوريّة عبر تغيير نظامها السياسي؟ بمعنى آخر: هل يدفع صوب مؤتمر تأسيسي في السنوات القادمة؟ لا إجابة قاطعة على السؤال، ولكن هذا السيناريو وارد. أمّا وأنّه كذلك، فالمنطق يقتضي تقوية الحضور المعارض للحزب بالمجلس النيابي قدر المستطاع، لا إهداء الحزب ـ عبر المقاطعة ـ غالبيّة الثلثين، ما يعبّد أمامه طريق التعديلات الدستوريّة. أعلم تمامًا طبعًا أنّ مسألة الإنتقال من نظام سياسي الى آخر ليست متعلّقّة حصرًا بموازين القوى داخل مجلس النوّاب، بل بمعادلات أكثر تعقيدًا محليًّا ودوليًّا. ولكنّ القول إنّ تعديل الدستورغير مرتبط حصرًا بالمجلس النيابي لا يعني أنّ الأحجام فيه غير مهمّة.
سادسًا، لو قاطعنا، ماذا نفعل في اليوم التالي؟ بمعنى آخر: كيف تتحوّل المقاطعة الى مشروع سياسي بعد الانتخابات؟ من يقول بالمقاطعة عليه التفكير بما بعدها. أقلّه الى الساعة، تبدو المقاطعة كحرد لا كاستراتيجيا سياسيّة. وإن كان القرف مفهومًا تمامًا، وناتجًا عن خيبة أمل من كثيرين راهن عليهم لبنانيّيون وطنيّون ثمّ خابت الآمال لاحقاً، فهذا لا يجعل من الحرد سياسة. الحرد، بالحقيقة، إستقالة منها، الّا إذا أرفق بتصوّر ما لمتابعة الجولة مع الثنائي ومواليه. هذا ما لم يحصل، أقلّه الى الساعة. كما ينبغي الإضافة هنا أنّ الهزيمة النفسيّة أخطر ما يمكن أن يُصاب شعب به؛ ومن الصعب التفكير بسبب أكبر لها من تصوّر مجلس نيابي مسيطر عليه تمامًا من الثنائي، بغياب كتل معارضة وازنة فيه. بهذا تكون المقاطعة، التي تصدر عن إحباط وقرف، وصفة للمزيد منهما، لا أكثر.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]