الدكتور شارل مالك – من كتاب “به كان كل شيء” – “المسيرة” – العدد 1727
في هذا الصيام الكبير نرجع نحن المسيحيين المؤمنين كلّ سنة إلى الأصول والجذور. تتأمل بخشوع هادئ أعمق ما في تراثنا من معطيات. وإن أعمق هذه المعطيات إطلاقاً هو دخول يسوع المسيح الأخير أورشليم، فآلامه فصلبه فموته فقيامته في اليوم الثالث. أمام هذه المعطيات الهائلة، كل شيء في الوجود، من نجوم وشموس، من علوم وفنون، من فلسفات ونظريّات، من شعوب وأمم، من ثقافات ومدنيّات، وكل شيء في الحياة، من لذّة وغبطة، من ألم وفرح، من إنجاز ووصول، من صداقات وبنين، من إنتماءات والتزامات، من مرضٍ وموت، أقول أمام آلام المسيح وصلبه وموته وقيامته، كلّ شيء في الوجود وكلّ شيء في الحياة هو سخيف تافه، بل هو لا شيء. ما أسخف ما يشغلنا هذه الأيام من إهتمامات دنيوية، في السياسة والاقتصاد بلبنان، في تطوّرات الأوضاع بالشرق الأوسط، في هذه التحركات الطالبية بلبنان والعالم، وحتى في شغلنا العيشي اليومي. ما أسخف هذه جميعًا بالقياس إلى يسوع المسيح الناصري في آلامه وصلبه وموته وقيامته. هذه في الأصول والجذور في حياتنا نحن المسيحيين المؤمنين، فطوبى لمن يركّز عليها في هذا الصيام الكبير، وطوبى لمن بها يفهم كلّ شيء.
لذلك لن أقدح أمامكم اليوم نظريّات في لبنان ومشاكله، ولا في السياسة والتاريخ والمجتمع والاقتصاد، ولا في العلاقات الدولية، ولا في الإنسان، ولن أحلّق معكم في أجواء الفكر والخيال، شأن الأديب أو الفيلسوف، بل أرجو منكم أن تشاركوني في التأمّل المتلهّف في بطل هذا الفصل المقدّس، أعني يسوع المسيح الناصري.ّ فلا يجوز لنا إطلاقاً أن نُشيح بنظرنا عنه حتى لحظة واحدة، ونحن في بيته وكنيسته.
هذا مَن تألم وصُلب ومات وقام من بين الأموات، هذا مَن تُكرّس الكنيسة المقدّسة هذه الأيام الصياميّة الخمسين لذكرى تلك الأحداث الهائلة التي حصلت له وللتأمّل فيها، هو ربنا وإلهنا ومخلّصنا ورجاؤنا الأخير الوحيد في هذه الدنيا وفي الآخرة. أتفهمون ما أقول؟ السياسة والاقتصاد ليسا ربنا وإلهنا. الجاه والطموح لن يخلّصانا من أعمق ما في نفوسنا من أمراض وأوهام. المال والغنى ليسا رجاءَنا. النظريّات والنظم ليست رجاءَنا. لا يمكن أن نُرسي رجاءنا على العلاقات والصداقات. كل هذه فانية متغيّرة خدَاعة. يسوع المسيح وحده، هذا الذي تألّم وصُلب ومات وقام في اليوم الثالث، هو هو ربنا وإلهنا ومخلصنا ورجاؤنا الوحيد. نقرأ اليوم مساجلات شيّقة في السياسة والاقتصاد، في الطائفية والكيان اللبناني، في العدالة والنظام، وفي شتى الحلول المقترحة لمشكلة الشرق الأوسط، وأخيرًا طلع علينا من يحبون ما يسمونه «تحرير المسيح» من العقيدة الكنسيّة المتوارثة عنه. إن كل هذه نقاشات مهمة، ولكلّ منها منطقه الخاص ونطاقه ومناسبته، وأنا أحترمها كل الإحترام، ولي فيها جميعًا آراء محددة. لكن أهميتها تتضاءل إلى لا شيء أمام مَن «من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء»، وتألم وصُلب ومات وقام من بين الأموات، هذا مَن يجب في الفصل الصيامي العظيم المقدّس أن نضع من أجله كلّ إهتمام وكلّ مساجلة جانبًا، وألا نفكر إلا فيه.
إن مَثَلَنا في هذه الإهتمامات والمساجلات مثل مرتا التي كانت مهتمة بأمور كثيرة، أما الحاجة فإلى واحد، ومريم أختها هي التي عرفت هذا الواحد، وقد وعدها الرب – وهو الواعد الصدوق – بأنه لن يُنْزَع منها.
أتعلم يا من تُساجل في السياسة والاقتصاد، وفي الطائفية ولبنان، وفي الأفكار والنظريّات، وفي العدالة والنظام، وفي الحرب والسلم، وحتى في أمر ما تسمّيه «تحرير المسيح»، أتعلم ما هو هذا الواحد الذي أنت شخصيًا بحاجة ماسّة إليه؟ هذا الواحد هو أن تسجد أنت بالذات عند قدمَي يسوع المسيح، مقرًّا أنك أنت مَن صلبته، كما صلبه أولئك الذين صلبوه، معترفاً بجميع خطاياك، طالبًا إليه بدموع حارّة الصفح والغفران. متى، يا إخوتي، متى نصبح أشخاصًا، متى يُقرّ الواحد منا، أحَبْرًا كان أم كاهناً، أفيلسوفاً أم تاجرًا، أعالمًا أم سياسيًا، أزعيمًا رفيعًا أم صعلوكاً حقيرًا، متى يُقرّ أنه، كشخص، كفرد «بيع للخطيئة»، أنه مجبول بالخطيئة، أن لا نفع منه، أنه فاسد، فانٍ، مائت، أنه لولا نعمة المسيح لما وُجد، ولولا نعمته لما بقي في الوجود، وأنه، لذلك، ليس بأمسّ الحاجة إلى المهاترات والمساجلات، ولا إلى النظم والكيانات، ولا إلى الثورات والإنقلابات، ولا إلى قدح النظريّات ، بل إلى كسر غروره وكبريائه، وإلى القرب من الرب المخلّص يسوع المسيح؟ الواحد الذي نحن بحاجة إليه هو الولادة ثانية، كأشخاص، بالجلوس المنسحق عند قدمَي يسوع المسيح. إن المشكلة الأخيرة في العالم كلّه هي مشكلة الشخص. أعني، هل بقي الشخص بعدُ في العالم، الشخص الذي عنده الوعي الكافي لشخصانيته ووحدانيته حتى يُقرّ أنه ناقص، خاطئ، فانٍ، منحرف، والذي عنده من الشجاعة المعنوية ما يمكّنه من عدم التهرّب من هذا الإقرار المؤلم بالإنجراف في شتى الخيالات والتبريرات والتيارات؟ هذه هي مشكلة المشاكل اليوم.
وأنا لا أقول هذه الأمور أمامكم اليوم بشكل تدريجي عام، قادحًا بذلك نظريّة فلسفيّة معيّنة. إذا أقول ما أقول أفكّر في هؤلاء «المشغولين بأمور كثيرة» ـ وأنا واحد منهم ـ المنجرفين في شتى الفِكَر والتيارات، أفكّر فيهم واحدًا واحدًا، أفكّر فيهم كأفراد، كأشخاص، أفكّر فيهم بأسمائهم الأولى، تلك الأسماء التي ينادون أنفسهم بها في وحدتهم، أفكّر فيهم وأقول لهم في نفسي:
أتعلم يا أخي؟ أتعلم ما أنت بأشد الحاجة إليه فوق انشغالك المخلص بهذه الأمور وقبلها وبعدها؟ إنك أنت، الشخص، الفرد، بهذا الإسم الشخصيّ الذي تُعرف به والذي تنادي نفسك به في السرّ، أنت بحاجة ماسّة الى معرفة يسوع المسيح، «والجلوس عند قدميه مستمعًا الى كلامه، متأمّلاً شخصه، متحسِّسًا قوّته ونعمته، متسائلاً بكآبة وحسرة ما بعدهما كأبة وحسرة: من أنا، من أنا، بالنسبة إليه؟ عندئذ فقط تولد شخصًا فردًا ثانية، عندئذ «تعرف الحق والحق يحررك»، عندئذ ينفتح أمامك ملكوت السموات. في إثر اعتماد يسوع في نهر الأردن على يد يوحنا، حين انفتحت السموات وهبط الله عليه بصورة حمامة، وحين صرخ صوت من السماء يقول: «هذا هو إبني الحبيب الذي عنه رضيت»، سار به الروح إلى البريّة ليجرّبه إبليس. حصلت التجربة العظمى رأسًا بعد امتلاء يسوع من الروح القدس، وحصلت بوحي من الروح القدس ذاته، أي في نطاق التدبير الإلهي الأزلي. وفي إثر انتصار يسوع، ذلك الإنتصار العظيم الهائل، على تجربات إبليس الثلاث، خرج إلى العالم وبدأ رسالته على الأرض. وماذا كانت أول كلمة نطق بها يسوع إلى العالم في إثر اعتماده وإثر انتصاره؟ كانت هذه: «توبوا فقد اقترب ملكوت السموات».
لو لم يقل يسوع سوى هذه العبارة للعالم، أعني لكَ يا أخي ولي أنا بالذات، أو لو لم يقل غيرها طوال السنوات الثلاث التي عاشها بعدها على هذه الأرض، أو لو ختم حياته الأرضيّة على الصليب بقولها هي فقط، لكان ذلك كافيًا. «توبوا فقد اقترب ملكوت السموات»: في هذه الكلمة كل شيء.
إبتدأت المسيحية بالدعوة إلى التوبة، وبالبشارة بأن ملكوت السموات قد اقترب. وبسبب هاتَيْن الدعوة والبشارة، وبسبب شخص يسوع المسيح الناصري الذي جاء بهما، وُلد الشخص الإنساني على الأرض.
تعني التوبة أربعة أمور: تعني أولا أنّي أنا التائب أعترف وأُقرّ بأنّي خاطئ، كما اعترف داود وأقرّ في مزموره الشهير: «إنّي عارف بمعاصيَّ وخطيئتي أمامي في كلّ حين. إليك وحدك خطئتُ وأمام عينيك صنعتُ الشرّ». هذا صراخ التائب وهذا هو اعترافه. فبِلا إقرار حقيقي بالسقوط، لا توجد توبة.
تعني ثانيًا أسفي وحسرتي وتألّمي أنا التائب على سقطتي وخطيئتي. أعني كرهي ذاتي لأنّي خطئت. فبِلا كره الذات، بلا الأسف والحسرة الجديين الحقيقيين، لا توجد توبة.
تعني ثالثاً اعتزامي الصادق، أنا الخاطئ التائب، على ألا أقع في الخطيئة ثانية، أعني، كما يقول بولس في رسالته الى أهل رومة، نبذي شريعة الخطيئة التي في أعضائي والتي تحارب شريعة عقلي، وارتمائي على شريعة الله التي يُقرّها عقلي تمامًا، وأطيّب نفسًا بها وأرغب فيها وأريد فعلها، مع أنّي كثيرًا ما أفعل عكسها. فبِلا توحيد ذاتي بشريعة الله التي يُقرّها عقلي تمامًا، وبلا نشداني إياها، بالرغم من خطاياي وبالرغم من الشيطان، لا توجد توبة.
تعني التوبة رابعا أنّي، أنا التائب المعترف الآسف المعتزم، أخاطب، في توبتي وصراحتي، شخصًا هو، عند المسيحي، يسوع المسيح، إن التوبة لا تقع في فراغ، التوبة لا تقع بيني وبين نفسي، التوبة تقع في حضرة شخص أتوب تجاهه وأمامه، لأنه هو أكملُ منّي، ولذلك، بمجرّد وجوده أمامي، يدينُني ويؤنّبني ويحكم عليَّ ويُخجلني من نفسي. إن التوبة تقع في حضرة المسيح، وبدونه لا يوجد شعور بالخطيئة، ولا يوجد إعتراف بها أو حسرة عليها – وبدون قوّته وروحه، عبثٌ وباطلٌ كلّ اعتزام على التغلّب عليها. إن المسيح فقط يكشف الخطيئة، والمسيح فقط يشفيها. الكاشف والشافي واحد، وهو يسوع المسيح.
ومَن لا يعرف يسوع المسيح لا يعرف الخطيئة، ولا يُقدِّر جسامة خطورتها، ولا يستحي من نفسه بسببها، ولا يندم ويتوب ولا يتحرّق لمخاطبة شخص بشأنها. إن يسوع المسيح الناصري هو وحده فاضح خطايانا، وأمامه فقط نخجل من أنفسنا ونتوب. وداود ذاته لم يُقرّ بخطيئته ويتوب إلا لأنه رأى يسوع المسيح بالإيمان والتطلّع. وكلّ إنسان لم يعرف يسوع المسيح ولم يسمع به، فإنْ شعر مرة بخطيئته وقدَّرَها وتاب عنها، فما ذلك إلا لأن أثرًا كان قد وصل إليه من يسوع المسيح، مهما كان هذا الأثر باهتًا أو غير مباشر.
والآن، أيها الإخوة، أتساءل: ما هي هذه الخطيئة التي، كما يقول بولس، ثمرتها الموت، والتوبة عنها هي الحياة؟
بأعمق معنى ممكن، إن الخطيئة هي كل ما من شأنه أن يبعدنا عن يسوع المسيح. في كل واحد منا إطلاقاً معرفة كافية ليسوع المسيح تمكّننا من الإجابة عن السؤال التالي: هل هذا الشيء الذي أفكّر فيه أو أقوله أو أفعله يرضى عنه المسيح أو لا يرضى عنه؟ إذا كان المسيح لا يرضى عنه، فهو خطيئة، أما إذا كان يرضى عنه، فهو ليس بخطيئة. أكرّر أن الإجابة عن هذا السؤال لا تحتاج إلى فلسفة أو علم، ولا إلى قوى عقليّة خارقة. إن كل واحد منا، مهما كان بسيطاً أو جاهلاً، يعرف تمامًا في قلبه هل فكره أو قوله أو تصرّفه يرضى عنه المسيح. ربما لا بدّ، مع الأسف الشديد، من أن نصنع شيئا أو نفوه بشيء. أو، على الأخصّ، نفكّر في شيء لا يرضى عنه يسوع المسيح، فكلّنا خطأة أمام المسيح، في حضرة المسيح، بالقياس إلى حكم المسيح علينا، كلّنا خطأة وكلنا بحاجة قصوى الى رحمته. أمام المسيح، في حضرة المسيح، لا بدّ من أن يعتري كلّ واحد منا شعور سحيق بالنقصان، وبالتالي أسَف للوضع الكياني الذي نحن فيه، وتحرّق للتخلّص منه. هذه هي الخطيئة: مقدار ما نحن بعيدون عن المسيح في حضرة المسيح.
إن هذه الأقوال كلّها، على صحتها ودقتها، تبقى مع ذلك أقوالاً عامة، وأنا أكره الأقوال العامة في الشؤون الكيانيّة الشخصية. أريد الآن أن أحدّد الأشياء، مِن فِكر وقول وعمل، التي تبعدنا عن المسيح، الأشياء التي لا يرضى عنها المسيح. يحدّدها بولس الرسول في عشرات المناسبات في رسائله، غير أن تعدادها في الفصل الأول من رسالته إلى أهل رومة قد يكون أكمل تحديداته. وأنا أعتقد أن هذا الفصل بالذات هو خير مدخل إطلاقاً لتفهّم التفسّح والإنهيار الخلقيّين الحاصلين في العالم اليوم. أتريد أن تفهم ما هو حاصل في المجال الخلقي في العالم اليوم، وما هي أسبابه الأخيرة؟ إذاً، إقرأ الفصل الأول من رسالة بولس إلى أهل رومة. إقرأ وأنعم النظر في كلّ كلمة ومعنى داخله.
يقول بولس: «لا عذر للذين عرفوا الله ولم يمجّدوه ولا شكروه كما ينبغي لله، بل تاهوا في آرائهم الباطلة فأظلمت قلوبهم الغبيّة. زعموا أنهم حكماء، فإذا هم حمقى قد استبدلوا بمجد الله الخالد صورًا زائلة. ولذلك أسلمهم الله بشهوات نفوسهم إلى الدعارة يشينون بها أجسادهم. قد استبدلوا الباطل بالحق الإلهي واتقوا المخلوق وعبدوه من دون الخالق، تبارك أبدًا. ولهذا أسلمهم الله إلى الأهواء الشائنة… أسلمهم إلى فساد بصائرهم فأتوا كلّ مُنكر. مُلئوا من أنواع الإثم والخبث والطمع والشرّ. مُلئوا من الحسد والتقتيل والخصام والمكر والفساد. هم مغتابون نمّامون، أعداء الله، شتّامون متكبّرون صلفون، متفنّنون بالشرّ، عاقون لوالديهم، لا بصيرة لهم ولا وفاء ولا ودّ ولا رحمة.
هذه يا إخوتي بعض الأشياء التي تبعدنا عن المسيح، بعض الأشياء التي لا يرضى عنها المسيح. هذه هي الأشياء التي لا يكتشفها ولا يحكم عليها فينا إلا المسيح، وهذه هي الأشياء التي لا يشفينا منها إلا المسيح. إن عبارة «توبوا فقد اقترب ملكوت السموات» تعني توبوا عن هذه الأشياء وعن مثلها كي تتمكّنوا من دخول ملكوت السموات.
(يتبع)
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]