الديمقراطيّة ومهزلة تشويهِها

حجم الخط

في خِضَمِّ المواقفِ، والتّجاوزات، والخطاباتِ المَمجوجة، وعلى مساحةِ الوطنِ، ينبغي الكشفُ عن المفهومِ الصّحيحِ لِما يُسَمّى، عندَنا، ديمقراطيّة. وهنا، لن أدخلَ في التّنظيرات، ولا في التّعريفاتِ المُوَثَّقةِ عالمياً، لكنّني سأُقاربُ ما يَنتجُ، بديهيّاً وتلقائيّاً، عن التمتّعِ بالجَوِّ الديمقراطيِّ في الدُّوَلِ التي تُقيمُ وزناً لهذه النّعمة.

يذهبُ علماءُ الإجتماعِ، وفي مقدِّمهم ” أرسطو “، الى اعتبارِ الديمقراطيّةِ هي النّاظمَ الأساسيَّ للتشكيلِ الإجتماعي، والجهةَ المُؤتَمَنَةَ على النّظامِ الذي يتمُّ به الإنتقالُ الى الحالةِ المدنيّة، وترسيخِ شكلِ الحياةِ الفرديّةِ، والجَماعيّة، القائمِ على الحقِّ في الوجودِ الحرّ. ومعنى ذلك، تأمينُ حقوقِ النّاس، واكتسابُهم الحريّةَ التي تنسحبُ على كلِّ ما يتعلَّقُ باختياراتِهم، بما فيها آليّةُ الإنتخاب.

إذا كانتِ الدّيمقراطيّةُ تعملُ على شَدشَدةِ جسدِ المجتمعِ الرَّخو، وفَكِّ أسرِهِ من الخضوعِ لقَهرِ المُتَسَلِّط، ومن حالةِ الفِطرةِ حيثُ تسودُ شريعةُ الغاب، وحيثُ الحقُّ للقوةِ دائماً، وتسعى، كذلك، الى إلغاءِ الأنارشيّةِ التي بِلا ضَوابط، لتقومَ على أنقاضِها خصائصُ التَنَوّرِ من حقوقِ الإنسان، واحترامِ حريّةِ الفكرِ، والقَولِ، والمعتَقَد، والقناعات، فهل هذه الديمقراطيّةُ المَجيدةُ مُتَلَمَّسَةٌ، فِعلاً، في بلادِنا المَيمونة ؟؟؟

من بديهيّاتِ الديمقراطيّةِ أن نُحسِنَ الإختلاف، أي أن نتربّى على ثقافةِ تَقَبُّلِ الآخر، أيّاً كان اختيارُه، وأن نقتنعَ بأنّ التنوّعَ غِنًى، وبأنّ التّعارضَ في الآراءِ، والمواقف، هو أمرٌ إيجابيٌّ إذ يُجلي جوانبَ عديدةً في الفكرةِ الواحدة. فالديمقراطيّةُ ترى في الإختلافِ، سُنَّةً وجوديّةً، ومن طبيعةِ الكائنِ البَشَريّ، وميزةً على صعيدِ احترامِ الآخر، وقيمةً مطلوبةً للتطوّرِ الحضاريّ.

أمّا عندَنا، فقد أفرزَ واقعُنا، إنْ في السّلطةِ أو في خارجِها، مجموعاتٍ تَتَّصِفُ بالنّرجسيّةِ المريضة، وتمارسُ سياسةَ الفَرضِ الفَوقيّة، وتحجزُ الناسَ في قُمقُمِ آرائِها، وتفرضُ عليهم، بالتّرهيبِ والتّهديد، أن يستعيدوا، بَبَّغائيّاً، وعن غيرِ وَعي، مواقفَها، وأن يدافعوا عن هذه المواقفِ وكأنّها النّصُ المُنزَل. وتهدمُ هذه الجماعاتُ ” الرّاقيةُ ” حيثيّةً عنوانُها : الرأيُ الآخر، ما يُجهِضُ، تلقائيّاً، أو بالإكراه، حالةَ التَشاركيّةِ، والتّفاعلِ بين المُختلِفات، وفي ذلكَ، بالطَّبع، سَحقٌ للديمقراطيّةِ لِحسابِ السّلطويّةِ، والديكتاتوريّةِ، والإقصاءِ، والأحاديّة.

عندَنا، وما نُشيرُ إليه مَعيوشٌ، وموَثَّق، ممارسةٌ عقيمةٌ لفَرضِ خَلَلٍ، أو مَرَضٍ، يُعزِّزُ خسارةَ الديمقراطيّة، لتحلَّ، ” سعيدةً “، الصّراعاتُ، والمخاصماتُ، والمنازَعاتُ، وصولاً الى العدائيّةِ بشكلِها الإرهابيِّ المُؤذي. إنّ هذا الإستئثارَ، بالإستقواءِ، هو انقلابٌ فاضِحٌ على مبادئِ النّظامِ الديمقراطيّ، وقَمعٌ مشهودٌ للحريّةِ، وتنفيذٌ للقَبضِ على مفاصلِ الحياةِ السياسيّةِ لاستلامِ زمامِ البلدِ، واحتكارِ القرار، وانقلابٌ سافرٌ على ما ارتضاهُ اللبنانيّونَ في دستورِهم، وصيغةِ عيشِهم، وخيبةٌ عارمةٌ لآمالِ الرقِيِّ، وسقوطٌ للوطنِ في هاويةِ تَصفيةِ الحريّاتِ بقبضةٍ حديديّة، ليعمَّ، بذلك، قُبحُ الظّلم.

نحن على عتبةِ انتخاباتٍ مصيريّةٍ، تسعى، وبالخطِّ العَريض، الى أن يعودَ الشّعبُ سيّدَ نفسِه، وصاحبَ قرارِه، والمُدافعَ عن حريّتِه، فمن المفروضِ، إذاً، أن تكشفَ الإنتخاباتُ استفاقةً حتميّةً لنَبضِ الذين يتوقونَ الى الكرامةِ الحُرّة. ومطلوبٌ منها، كذلك، أن تقلبَ الموازينَ على مستوى إنتاجِ تغييرٍ مُلزِمٍ يتميّزُ بالتحوّلِ من خُطَطِ تقويضِ الدولةِ، وانهيارِ الكرامةِ الوطنيّةِ بالخضوع والطّاعة، الى بناءِ تشكيلةٍ وطنيّةٍ مُناضِلةٍ تستعيدُ ما ضُيِّعَ من الحريّةِ، والسيادة.

إنّ الديمقراطيّةَ هي، أساساً، لسانٌ من نارٍ في مراسمِها التي تنشطُ الى إعطاءِ الشّعبِ القوّةَ والحقَّ لصناعةِ القرار، فيتلاشى، بذلك، الحكمُ الأوتوقراطيُّ الذي يُحكِمُ سيطرتَه على النّاس، وينتزعُ ولاءَهم بالوَعيد. من هنا، كان مُحَتَّماً على الشّعبِ اليَقِظِ أن يُسقِطَ سلطانَ الخوف، وأن يبادرَ الى الإقتراعِ، وبكثافةٍ، للوائحِ السياديّين الذين، لطالما، واجهوا البِدَعَ التي تخفي أهدافاً مُلتَبِسَةً لا علاقةَ لها بمصالحِ الشّعبِ، وبسيادةِ الوطن. فالشّعبُ هو الكيانُ القويُّ الذي يتمتّعُ بإرادةِ القرارِ الحرِّ المُتميِّزِ عن كلِّ تَبَعيّة، خارجيّةً كانت أم داخليّة، وإذا كان يُجاهِرُ بولائِهِ لخارطةِ لبنان، وحدَها، فعليهِ أن يعتبرَ ولاءَه رايةَ فَخرٍ وليس وَصمةَ عار، فلا يتوَهَّمَنَّ البعضُ التّابِعُ أنّ بإمكانِ استقوائِهِ إصابةَ الوطنيّينَ الخُلَّصِ بلوثَةِ الإنفصالِ عن ترانيمِ الحريّة، فليسَ للذلِّ في أرضِهم مَوطِئ.

 

 

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل