على الرغم من انشغالها باستحقاقاتها الدستورية الداخلية التي أعقبت انتخاباتها الرئاسية، وعلى الرغم من انهماكها بالحرب الروسية على أوكرانيا وبمواجهة تداعياتها الأمنية والعسكرية والنفطية والغازية عليها وعلى القارة العجوز ككلّ، تبدو فرنسا في صدد تحريك عجلاتها من جديد على الخط اللبناني. صاحبُ المبادرة التي وُلدت اثر انفجار المرفأ في 4 آب 2020، الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، يتحضّر، وفق ما تقول مصادر دبلوماسية مطّلعة لموقع القوات اللبنانية الالكتروني، لإنعاش وساطته لبنانياً في قابل الأيام لا سيما اذا لمس تعثّراً في مسار إتمام الاستحقاقات التي يتعيّن إنجازُها غداة الانتخابات النيابية.
غير ان الاستعدادات لنفض الغبار عن “المبادرة” لا تزال في بداياتها، تتابع المصادر. فماكرون يدرس مع دوائر الـ”كي دورسيه”، الطريقةَ الفضلى لاستئنافها، فيما تتباحث الخارجية الفرنسية، في خيار إرسال وفد “استطلاعي” الى بيروت، لإجراء اتصالات مع القوى السياسية كلّها، القديمة منها والجديدة التي دخلت الندوة البرلمانية غداة 15 أيار، لحثّها على عدم التعطيل وعلى تجاوز العقبات التقليدية التي توضع عادة في درب تكليف رئيس الحكومة وتأليفها، وتُعرقل تشكيلها لأشهر.
في أول موقف أصدرته باريس غداة الانتخابات، حضت “جميعَ المسؤولين اللبنانيين على تعيين رئيس مجلس وزراء من دون تأخير وإلى تشكيل حكومة جديدة لكي تتخذ التدابير الضرورية للنهوض بالبلاد ولكي تقدم حلولا يعتد بها تلبي تطلعات السكان، لا سيما بالاستناد إلى الاتفاق الإطار الموقع مع صندوق النقد الدولي”. وأكدت انها ستواصل “وقوفها إلى جانب الشعب اللبناني”.
هذا الجوّ المستعجِل تشكيلَ حكومة “إصلاحية” منسجمة، مِن الاختصاصيين او من القوى السياسية لا فرق، ستنقله باريس الى بيروت، عبر وفد ترسله الى لبنان، او عبر اتصالات عابرة للقارات سيجريها المعنيون بالملف اللبناني في فرنسا، بالمسؤولين اللبنانيين، وقد أبلغته السفيرة الفرنسية آن غريو أمس الى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
والحال ان باريس تخشى فترة تعطيل سياسي طويلة، نظراً الى رفض اهل المنظومة الإذعان للأكثرية الجديدة واصرارِهم على حكومات الوحدة الوطنية وعلى التركيبات التقليدية التي كانت تقوم عليها الحكومات في الماضي، التي تَجمع الموالاة والمعارضة على الطاولة الوزارية نفسها. وهو الامر الذي يرفضه رفضاً مطلقاً، السياديون والتغييريون الذين دخلوا الى ساحة النجمة، حيث يطالبون بحكومة أكثرية فيما الأقلية تعارض، انسجاماً مع قواعد اللعبة الديمقراطية، او فلتكن حكومة تكنوقراط فعلية من اهل الاختصاص غير المحسوبين على أي طرف سياسي.
هذا الشرخ العمودي يقلق باريس اذاً، وهو قلق في مكانه، خصوصاً أن الكباش السياسي المرتقب ـ الذي لن تتمكن فرنسا من فضّه تماماً كما عجزت عن فضّه إبان تأليف الحكومة إثر انفجار المرفأ ـ سيُدخل البلاد المنهارة أصلاً، في مرحلة شلل غير معروفة الآجال. وإذا كانت هذه هي الحال، ولأن حكومة تصريف اعمال لا تكفي لمواجهة الأزمات الاقتصادية والمالية القاتلة، فإن ماكرون قد يقترح على اللبنانيين حواراً ما، أو مؤتمرا ما، للخروج من المأزق، يشمل إعادة النظر في بعض جوانب النظام اللبناني.
لكن القوى السيادية ستقف في المرصاد لأي محاولات للتلاعب بالنظام والصيغة، وستصرّ على حماية “الطائف” وعلى تطبيقه، لأن أي مسّ به، سيصبّ في خانة الأقوى في الداخل، أي حزب الله “المسلّح”… فهل يمكن القول اذاً، ان مبادرة ماكرون، في صيغتها الجديدة، ستكون مضيعة للوقت لا أكثر؟!