“القوات اللبنانية” ولعنة الحلفاء

حجم الخط

من الواضح أن الهدف الذي نشأت من أجله “القوات اللبنانية” يجعلها دائماً على خط النار بل في دائرة الاستهداف، لأنها منذ تأسيسها وُجدت للدفاع عن الفكرة اللبنانية بتعددية شعبها وقيم الحرية والسيادة وحقوق الإنسان والعيش الكريم والحر، والمفارقة أن المؤمرات التي يتعرّض لها لبنان منذ 1975 حتى اليوم، تقف في مواجهتها “القوات” مهما بلغت التضحيات. في بعض الأحيان تكون وحيدة، وفي بعضها الآخر يقف إلى جانبها حلفاء، أكثريتهم يتعبون في منتصف الطريق، فيستقيلون أو يسعون إلى تسوية وربما إلى ربط النزاع مع المتآمرين، أما “القوات” فلا تتراجع، مبادئها لا تتغيّر، أهدافها ثابتة، قد يتغيّر التكتيك في بعض المراحل، إلا أنها تبقى رأس حربة منسجمة مع نفسها وتاريخها وتطلعات شعبها. حتماً لقد دفعت أثماناً باهظة ليست سراً على أحد، وأحياناً تعرّضت للحرق حتى أصبحت رماداً، إلا أنها غالباً ما كانت تنبعث من الرماد كطائر الفينيق!

ما نقوله ليس شعراً إنما وقائع وحقائق لا ترحم، مع ذلك غيّرت حسابات المتآمرين مرات ومرات، ويبقى السؤال لماذا يصعب التحالف مع “القوات”؟ وكم مرة تركت وحيدة في ذروة المعارك العسكرية والمواجهات السياسية؟ حتى لا يبقى كلامنا مجازياً، سنستعرض هذا الشريط التاريخي مع قراءة سياسية تُظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

وُلدت القوات من رحم الأحزاب التي كانت تتمثّل في الجبهة اللبنانية، وهكذا أصبحت الذراع العسكرية لهذه الجبهة السياسية التي تشكّلت من وجوه رائدة في مجال السياسة والاستراتيجيا والفكر والفلسفة الكيانية، نذكر منهم: الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل، وبشير الجميل، الاباتي شربل قسيس، الأباتي بولس نعمان، شارل مالك، فؤاد الشمالي، شاكر ابو سليمان، جواد بولس، سعيد عقل… هؤلاء رفعوا شعار الدفاع عن لبنان ضد الاحتلالات لأرضه، اعتمدوا على “القوات” كتنظيم مسلّح بقيادة بشير الجميّل. وإذا نظرنا إلى الوقائع، افتقرت “القوات” في المعارك العسكرية إلى أي حليف داخلي فيما الأعداء كانوا فصائل فلسطينية والجيش السوري وأحزاب الحركة الوطنية بما فيها المرابطون وحركة “أمل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي”. كانت “القوات” تتفوّق على نفسها حتى أصبحت مؤسسة متكاملة، وأرست توازناً مع الأعداء آنذاك وحافظت على منطقة حرة معظمها للمسيحيين، وكانت المنطقة الوحيدة الخالية من الاحتلال!

بعد انتخاب بشير رئيساً للجمهورية، استشهد في 14 أيلول 1982، وعاد الوضع اللبناني إلى التأزم رغم انتخاب شقيقه أمين الجميل رئيساً، استبشرت “القوات” خيراً بأن شقيق بشير لا بد أن يحمل نهجه وسيكون حليفاً متيناً، ولا شك في أن أسلوب أمين كان مختلفاً عن بشير نظراً إلى اختلاف شخصيتهما، فتراكمت الأزمات عليه، وتخلل عهده اقدام وتردد وتراجع وحروب وفراغ! استمرت “القوات” رغم غياب مؤسسها، ووضعت على خط النار في الجبل عام 1983، هناك أيضاً كانت وحيدة، وكانت تعرف ان موازين القوى ليست لمصلحتها نتيجة معرفتها لتوزيع القوى على الأرض، وكان من البديهي أن يُجرى التنسيق بينها وبين رئيس الجمهورية الذي كان يفترض أن يكون حليفها الطبيعي، وكونه الرئيس الأعلى للقوى المسلحة، لم يكن صعباً عليه الطلب من الجيش اللبناني الذي كان يقوده ميشال عون أن ينتشر في الجبل ويوفّر على المسيحيين والدروز المزيد من المجازر، هذا ما طلبته “القوات” مراراً وتكراراً من الجميّل، إلا أن طلبها لم يستجب، وهذا ما تكرر في الشحار الغربي وشرق صيدا وقرى ساحل جزين ومن كان على الأرض هناك يعرف حقيقة ما حصل.

هناك في الجبل والشحار وشرق صيدا، وجدت “القوات” نفسها أمام جيش اسرائيلي متوطئ مع الأعداء آنذاك، وعودة الجيش السوري وفصائل فلسطينية والاشتراكيين وغيرهم من المقاتلين اليساريين، مع ذلك، صمدت وقاتلت باللحم الحيّ، سقط لها الكثير من الشهداء، وتمكّنت من مرافقة اهلها في الجبل إلى دير القمر حيث طال الحصار، ولو تدخل الجيش كانت وجهة المعركة تغيّرت 180 درجة!

وهذا ما حصل أيضاً في قرى شرق صيدا وساحل جزين حيث دخل خليط من المسلحين فقتلوا من قتلوا وهجروا من هجروا وكان رد الدولة محدوداً بتحليق طائرة هوكر هنتر في أجواء المنطقة من دون أن تطلق طلقة واحدة، وبقي المحتلون 6 سنوات يعيثون فساداً في الأرض فدمروا القرى وحولوها الى معسكرات تدريب وتركوا بصماتهم وشعاراتهم على كل منزل وزاوية ومنها شعار “سنضع أميركا تحت أقدامنا”!

قبل ربع ساعة من إنتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل، صدر مرسوم تشكيل حكومة عسكرية بقيادة العماد عون، ورغم “نقزة” القوات المحقّة من الخطوة، إلا انها قررت وضع يدها بيد عون لمواجهة أعداء لبنان والاحتلالات الرابضة على صدره، وكانت مهمة حكومة عون تأمين انتخاب رئيس جديد للجمهورية كما حصل عندما تم تكليف اللواء فؤاد شهاب رئاسة الحكومة الإنتقالية بعد إستقالة الرئيس بشارة الخوري. تلك الحكومة أمّنت إنتخاب الرئيس كميل شمعون خلال ثلاثة أيام. مع العماد عون كان الأمر مختلفاً، وكان مقدّرًا أن يدخل لبنان في نفق مظلم، إذ انقلب قائد الجيش على “القوات” بهدف الغائها رغم استمرار الاحتلال السوري، وعادت “القوات” وحيدة في مواجهة أحلام عون بل حروبه الوهمية التي أنهكت المسيحيين وأدت في نهاية المطاف إلى قبول “القوات” والبطريرك الماروني الراحل مار نصرالله بطرس صفير باتفاق الطائف، وسمح بتمرده وتشبثه بمواقفه وحساباته الخاطئة للسلطة الجديدة المنبثقة عن الطائف إنهاء حالته الشاذة في قصر بعبدا بعملية عسكرية قام بها الجيش السوري في 13 تشرين الأول 1990.

دخلت “القوات” عهد “الطائف” بنيات حسنة، وأظهرت هذه النيات على ارض الواقع من خلال التخلي عن سلاحها والانصهار في عملية المصالحة الوطنية متأملة تطبيق الطائف وانسحاب الجيش السوري كما أتفق، حتى أنها انفتحت على قوى سياسية أخرى كانت في الجبهة المقابلة متخطية الأحقاد والدماء التي أهرقت في حرب دامت 15 عاماً، إلا أن الغيوم سوداء كانت تلوح في الأفق، وأخذت السلطات اللبنانية السورية تمارس الاضطهاد والقمع والقتل بحق القواتيين وصولاً إلى استفراد “القوات” على نحو كامل عام 1994، ومرة أخرى كان الحزب “السياسي” هذه المرة وحيداً في مواجهة منظومة رعب من دون سلاح ولا حلفاء، فانقضت على رئيسها سمير جعجع واعتقلته بعد تدبير انفجار في كنيسة سيدة النجاة، واتخذت قرارات جائرة وظالمة بحلّ الحزب، وأمضى رئيسه وشبابه أكثر من 11 عاماً يواجهون باللحم الحي من دون أي حليف داخلي أو خارجي، حتى أصبحت “القوات” مقياساً لمنسوب الحرية في لبنان، ولعمري ان الحرية السياسية كانت مفقودة على نحو كامل في ذلك الوقت!

بدأت نقطة التحوّل عام 2000 مع صدور بيان المطارنة الشهير في ايلول وسمّى الأمور باسمائها، تلاه مصالحة الجبل، وتأسيس لقاء قرنة شهوان ثم لقاء البريستول، وصولاً إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري وثورة الأرز في 14 آذار 2005، ولا شك في أن “القوات” كانت مزهوّة بتحالف صريح للمرة الأولى مع قوى سياسية أخرى لم تكن قريبة منها في الماضي وبعضها تواجهت معها عسكرياً، وتشكّل تحالف 14 آذار من تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي و”القوات اللبنانية” وحزب الكتائب وشخصيات مستقلة.

وهذا التحالف العابر للطوائف أدى إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان، متلاقياً مع القرارات الدولية ولا سيما القرار 1559.

بعد الانجاز وتحقيق الاستقلال الثاني، أخذت “القوات” تفقد حلفاءها تدريجياً فخفّ وهج المواجهة، والمبرر خوف خؤلاء الحلفاء من اندلاع حرب أهلية، فكانت البداية بالحزب التقدمي الاشتراكي بعد انتخابات العام 2009، وعلى خلفية دروس ما سماه وليد جنبلاط “هزيمة 7 أيار 2008”  خرج من 14 آذار إلى ما سماه الوسطية التي ستهزم في ما بعد. أما تيار “المستقبل” فقرر المشاركة في حكومة برئاسة تمام سلام عام2014 ، فيما رفضت  “القوات” المشاركة في الحكومة، انسجاماً مع الموقف الصادر عن 14 آذار، القائل بعدم جواز المشاركة قبل انسحاب “حزب الله” من الحرب في سوريا. كان لتيار المستقبل وحزب الكتائب اللبنانية برئاسة الرئيس أمين الجميّل (وقتها، قبل أن يتسلم نجله النائب سامي الجميّل قيادة الحزب) ولباقي الشخصيات المستقلة في 14 آذار، اعتبارات أخرى دفعتهم إلى المشاركة والجلوس إلى طاولة واحدة مع الحزب وحلفائه، وتقديم الغطاء الرسمي لكل ممارساته السياسية والأمنية والعسكرية السابقة واللاحقة. واستمرّ التباين في مقاطعة القوات أيضاً لجلسات الحوار الوطني، في حين كان لحلفائها المفترضين رأي آخر.

عام 2016 كانت الترشيحات لرئاسة الجمهورية الشعرة التي قصمت ظهر البعير، فتخلى الحريري عن ترشيح جعجع متبنياً ترشيح حليف النظام السوري و”حزب الله” النائب سليمان فرنجية للرئاسة، وهكذا كانت التسويات أكبر عدوّ لإستمرار هذا التحالف.

حاولت “القوات” تعزيز الوحدة المسيحية بتوقيع تفاهم مع “التيار الوطني الحر” ورئيسه ميشال عون، واستدراج هذا “التيار” إلى الحقل السيادي وابعاده عن “حزب الله” من خلال التوقيع على بنود سيادية، إلا أن المحاولة باءت بالفشل وانقلب عون بعدما أصبح رئيساً على التفاهم، مما جعل “القوات” تخوض الانتخابات النيابية وحيدة ومن دون تحالفات عام 2018، وهكذا استمرت لعنة الحلفاء!

 

الشريط لم ينته، إذ جرت الانتخابات النيابية هذه السنة، وفازت “القوات” بـ19 نائباً، وحازت معها قوى التغيير والشخصيات السيادية المستقلة و”الاشتراكي” على 66 مقعداً أي الأكثرية النيابية، استبشر الناس خيراً بأن هذه القوى ستواجه “حزب الله” وحلفاءه لاستعادة الدولة وتعزيز الثقة الدولية بلبنان، وأبدت “القوات” كل ما يلزم للتنسيق مع هذه القوى، إلا أنها أظهرت تشرذماً في الجلسة البرلمانية الأولى المخصصة لانتخاب رئيس المجلس ونائبه، مما خيّب آمال الكثيرين، لكن “القوات” لا تزال تراهن على تكثيف الجهود مع هذه القوى لتسمية رئيس حكومة مكلّف والتأكيد على وجود أكثرية قادرة على المواجهة. تبدو “القوات” الفريق الأكثر تماسكاً وقوة من بين هذه القوى، إلا أنها تطعن دائماً من بيت أبيها وتبقى وحيدة من دون حلفاء في أي مواجهة، فهل كُتِبَ لها أن تحمل لبنان على منكبيها أو تبرهن القوى التغييرية والسيادية أنها على قدر من المسؤولية للمضي قدماً بعملية تحرير الدولة اللبنانية من مافيا السلاح والفساد أو نبقى في دائرة التخوين التي لا جدوى منها؟

المصدر:
أخباركم أخبارنا

خبر عاجل