مع انطلاق عمل الباخرة “إينرجان باور” في أعمال الحفر واستخراج الغاز الطبيعي من حقل #كاريش، يكون ملفّ ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل قد وصل الى خواتيمه، واضعاً حداً لسياسة المماطلة والمكابرة وشراء الوقت المعتمدة منذ عقود، مهدّدة ثروة لبنان النفطية وقدرة البلد على الاستفادة منها.
لم يعد في إمكان أي فريق، في السلطة كان أو من أصحاب السطوة والنفوذ عليها، أن يتلطّى وراء ذرائع، فيما إسرائيل بدأت خطواتها العملية في الاستخراج ووقعت الاتفاقيات مع مصر ودول أوروبية من أجل مباشرة التصدير وبناء خطوط نقل جديدة. ذلك أن مشكلة لبنان ليست في الواقع مع إسرائيل التي تأتي في الدرجة الثانية، بل مع الداخل اللبناني العاجز عن تحقيق إجماع على موقف وطني رسمي جامع يبلغ الى الأمم المتحدة والى الموفد الأميركي الذي يقوم بدور الوساطة في المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل. فالسلطة اللبنانية لا تزال تدور في فلك المراوحة ولم تأخذ في الاعتبار التطورات التي يشهدها الملفّ على المقلب الاسرائيلي.
لا وصول الباخرة كان مفاجئاً، وموعد إبحارها وخط سيرها كان معلوما ومعلناً عنه، تماماً كما التخلف عن إبلاغ الوسيط الأميركي رداً رسمياً على مقترحاته كان متوقعاً، علماً بأنه مضى عام على آخر جلسة تفاوض، كما مضت أربعة أشهر على آخر زيارة لآموس هوكشتاين للبنان في شباط الماضي.
لا تقف الأمور عند هذا الحد، بل تذهب الى إعلان الخارجية اللبنانية أن لبنان ينتظر مجيء هوكشتاين لإبلاغه الموقف الرسمي!
يضاف الى كل ذلك أن لبنان الرسمي لم يحسم بعد موقفه من الخط 29 ومن تعديل المرسوم 6433 الذي يعدّل الإحداثيات بما يتوافق مع هذا الخط. فعلى أيّ أساس يستقبل لبنان هوكشتاين الأسبوع المقبل، وكيف سيخرج من حال الارتباك التي وقع فيها نتيجة غياب الشفافية والمصارحة في التعامل مع ملفّ بهذا القدر من الأهمية والخطورة لما يرتبه من تهديدات أمنية وعسكرية مرتبطة بحال النزاع القائمة بين لبنان وإسرائيل، فضلاً عن التهديدات المتبادلة بين الأخيرة و”حزب الله”.
والواقع أن الارتباك ينسحب على الجميع في الداخل، دولة وحزباً. ولعل هذا ما يبرّر الكلام الصادر عن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي من مطار رفيق الحريري الدولي أمس، كما يبرّر موقف الحزب الذي سيعبّر عنه في شكل أوضح أمينه العام في إطلالته التلفزيونية اليوم.
فميقاتي، رداً على سؤال عن إمكان عقد جلسة لمجلس الوزراء لبحث ملفّ ترسيم الحدود قال إن “الحكومة حكومة تصريف أعمال، ولكن أمام أمور أساسية فلن أتقاعس أبداً عن دعوة مجلس الوزراء الى الانعقاد عند الضرورة”، كاشفاً عن عزمه على عقد اجتماع مع رئيس الجمهورية قبل نهاية الأسبوع لبحث الخطوات الواجب اتخاذها. وكانت لافتة مناشدة ميقاتي “الجميع وقف السجالات في هذا الموضوع، فالخط ٢٩ هو أصلاً خط تفاوضي وأنا شخصياً لست على استعداد للقيام بأي عمل ارتجالي يعرّض لبنان للمخاطر. هذا الموضوع يحلّ بديبلوماسية عالية وبرويّة، وقد أجريت العديد من الاتصالات لما فيه مصلحة لبنان، والأساس أن نبدأ باستخراج الغاز من مياهنا، مما يعطي البلد نوعاً من الازدهار. أدعو الجميع الى التروّي ووقف السجالات لأن المسألة قيد الحلّ سلمياً.
والسؤال: ماذا يعني ميقاتي وقبله رئيس الجمهورية أن الخط 29 تفاوضي وليس خطّ حدودنا البحرية (عون)، وإلامَ يرمي عندما يتحدّث عن عمل ارتجالي يعرّض لبنان للمخاطر، واستطراداً ماذا يقصد بقوله إن المسألة قيد الحلّ السلمي؟
بالتوازي، يبرز موقف الحزب الهادئ تحت سقف الدولة ليواكب هذه التساؤلات.
في المعطيات المتوافرة، إن الدولة، بالتنسيق مع الحزب، تسعى الى تجنّب أيّ مواجهة أو عمل عسكري مع إسرائيل، قد يستجد إذا استمرّت أعمال الحفر والاستخراج ولم يكن لبنان قد حسم موقفه من الخط 29. ذلك أن بقاء الغموض على حاله سيحرج الحزب أمام استمرار الأعمال البحرية. محرج ومتهم بالتقاعس إذا بقي على صمته، متفرجاً على اعتداء إسرائيل على الثروة البحرية، إذا تمّ الاعتراف الرسمي بالخط ٢٩، ومحرج إذا ذهب في تهديداته نحو القيام بعمل عسكري، معطياً الذريعة لإسرائيل للردّ والقيام بأعمال عدوانية ضدّ لبنان لا طاقة له على تحمّلها.
هذا الواقع دفع ميقاتي الى مقاربة المسألة بعقلانية خصوصاً أن الإعلان عن الخط 29 كان خلال تولّيه رئاسة حكومته السابقة. وبحسب المعطيات المتوافرة، إن الحل السلمي الذي يجري العمل عليه يعود الى ما كان هوكشتاين قد طرحه سابقاً والقاضي بمقايضة حقل قانا بحقل كاريش.
ويبقى الفصل في هذا الموضوع رهن وصول هوكشتاين الى لبنان واستئنافه اتصالاته وتبلغه الردّ اللبناني.
في مطلع تموز 2015، وفي حديث لـ”النهار”، قال هوكشتاين، وكان في حينها نائب وزير الخارجية الأميركية لشؤون الطاقة، إن التطورات تفرض على لبنان دخول اللعبة اليوم، داعياً الحكومة الى حلّ خلافاتها، معرباً عن خشيته من أن يصل لبنان متأخّراً. كان يقيم على اقتناع بأنه لتحقيق التقدّم في المفاوضات يجب الابتعاد من الحديث عن كلّ ما له علاقة بالخطوط والحدود، إذ يجب حصر التركيز في كيفية تطوير الموارد.
ما أشبه الأمس باليوم. فبعد سبعة أعوام على هذا الكلام، ومع توليه الوساطة في المفاوضات، لا يزال هوكشتاين مقتنعاً بوجهة نظره، مع فارق أن تحذيره بوصول لبنان متأخراً كان في محله. وقد وصل فعلاً اليوم الى ساعة الحسم متأخّراً، ضعيفاً بل منهمكاً ومن دون أدنى شك أكثر انقساماً وتشرذماً. والعبرة لمن اعتبر!