إنّ الولاءَ يذوبُ، ويُضَيَّعُ في ألفِ زاروب، عندما تطغى عليه المصلحة، أو تُرخي عليهِ بثقلِها خارطةٌ مستَورَدَةٌ غيرُ خارطةِ الوطن. وصُنّاعُ هذا الإنحرافِ الولائيّ، مهما تَصَنّعوا، وموَّهوا، ونظَّروا، يبقى مشهدُهم، وبما لا يحتملُ الشكّ، مُشَلَّعاً، شنيعاً، ويبقى بيانُهم واهِياً، غيرَ مُجدٍ وغيرَ مقبول، ولن تنفعَ، معه، دوراتُ إعادةِ تأهيلٍ ولائيّة، ولَو أُخضِعَ لها بتَدَخُّلِ وكالةِ غَوث.
ما نشهدُهُ، اليوم، في الأداءِ المُعوَجِّ، قَصداً، في موضوعِ ترسيمِ الحدودِ البحريّة، هو انقضاضٌ سافرٌ على الوطنِ والشَّعبِ والسلطةِ والحقّ، بانقلابٍ متَعَمَّدٍ يعبثُ بمصالحِ النّاس، ويتآمرُ على مقدِّراتِ الدولةِ الإقتصاديّة، ويحفرُ فجوةً سحيقةً بين أملِ الأجيالِ وبين سَرِقَةِ هذا الأمل. إنّ تضييعَ الفرصةِ اليتيمةِ المُتاحةِ لنُهوضِ البلادِ من كَنفِ تَكليسِها في قبرٍ سحيقٍ، والى الأبد، هو إعدامٌ يُنجِزُ موتَ لبنانَ، وفي ذلك خيانةٌ عُظمى يُعاقَبُ عليها بالإعدامِ في بلادِ الناسِ الذين يُقيمون للكرامةِ الوطنيّةِ وَزناً، وللمحاسبةِ العادلةِ شأنأ.
من حقِّ الشّعبِ أن يشعرَ بالإشمئزاز، والكُرهِ، والإمتعاضِ، والخَيبةِ، فالبشاعةُ التي يأتيها المسؤولونَ، عندَنا، تدفعُ الناسَ، حُكماً، الى الإحباط. إنّ مجرياتِ الأحداثِ قوَّضَت ثقةَ المواطنين بمَنْ يتولّى، باسمِهم، التّعاطي بقضيّةِ التّرسيم البحريّ، والتّنقيبِ عن الغازِ والنّفط، وهي قضيّةٌ لطالما تَرَصَّدَها الشّعبُ حلماً، وتمسّكوا بها إِكسيرَ حياة، وهم، الآن، يَرَونَها، بأُمِّ أعينِهم، توشِكُ أن تنهارَ كزُجاجٍ أصابَهُ المسؤولونَ المستَهترون بِرَكلَة.
من حقِّ الشّعبِ أن ينقمَ، وأن يقذفَ المسؤولينَ بأبشعِ النُّعوت، فهؤلاءِ الفاسدونَ خسَّروا الناسَ مرتَجاهم، وراحوا، بِزَيَفٍ طاغٍ، يروِّجون لاجتهاداتٍ سفيهةٍ، ومرافعاتٍ سخيفةٍ، ويصوغونَ إعلاناتٍ تدَّعي حمايةَ الحقِّ الوطنيّ، لإيهامِ المواطنين بأنّهم حريصونَ على هذا الحقّ، من جهة، ولتأجيجِ مواجهاتٍ بين شرائحِ الشّعبِ غيرِ المتوافِقةِ، ترغيباً أو ترهيباً، على رأيٍ واحدٍ مِمّا يدورُ حولَها، فتتلهّى، غصباً عنها، بخلافاتٍ تُقَلِّصُ مساحةَ انتباهِها الى حقيقةِ ما يأتيهِ المسؤولونَ من عَبَثٍ بالحقّ، وهو جريمةٌ نكراءُ لا يغسلُها سوى حبلِ المشنقة.
من حقِّ الشّعبِ أن يثورَ مُقتَحِماً محافلَ القيِّمين على مصيرِه، ومجالسَ المُتَرَبِّعين على سُدّاتِ التَحَكُّمِ به، أولئكَ المُصابين بشِحٍ في الإنتماءِ لوطنٍ لم يكنْ، يوماً، بَسْطَةَ رِزقِهم. إنّهم زمرةُ الأَتباعِ، وطلّابُ المغانم، وأربابُ الغاياتِ المُشبوهة، والمتكَسِّبون عن طريقِ الفساد، الذين لم يجدِ الولاءُ إليهم سبيلاً، فليسَ غريباً ألّا يكونَ بينه وبينهم تَحابٌّ وتَصافٍ.
إنّ المناوراتِ التي يمارسُها القيِّمونَ على قضيةِ المفاوضات، تُعبِّرُ عن كوامنِ أنفسِهم، بمعنى مقايضةِ التّنازلِ غيرِ المُبَرَّر عن جزءٍ من المساحةِ الإقتصاديّةِ البحريّةِ للبنان، أي التّراجع عن الخط 29 الى الخطّ 23، برفع العقوباتِ عن أشخاصٍ مُنتَهِكين، يدَّعون الطوباويّةَ والرّزانةَ والنّقاءَ السّلوكيّ، ويعتبرون أنفسَهم هابِطين من فَخذِ ” جوبيتير “، ليرتفعوا، بذلك، عن مقامِ البشر، ويصنِّفوا ذواتِهم زعماءَ مرموقين. وهؤلاءِ المُصطَفون الذين لا نعرفُ، حتى السّاعة، مَنْ طَوَّبَ البلادَ بإسمِهم، هم ” أبطالُ ” زمنِ تراجيديا لبنان، أي عصرِ تمريرِ النّزفِ، والألمِ، والخيبةِ، الى نفوسِ النّاس، وترسيخِ الإرتهانِ والفسادِ والتبعيّةِ والتّزوير، في جسدِ السّلطةِ التي نُكِبَت بهم.
من حقِّ الناس، كلِّ النّاس، والحالةُ هذه، أي بَيعُ حقوقِ الوطنِ في سوقِ النّخاسة، أن يُحجِموا عن آليّةِ التّصفيق، ويستبدلوا قناعاتِهم السّاذجةَ بالوَعي، ويطردوا الشّياطين الذين نفخوا فيهم تفكُّكاً، وتضليلاً، وكفراً بالقِيَمِ الوطنيّة، وأن يحرصوا على رفضِ الدَّجَلِ المتمادي، للوقوفِ، معاً، في وجهِ النَّكبةِ التي تفتكُ بهم، والمعروفةِ محرِّكاتُها، وعِلّتُها، وأهدافُها. واستناداً لرفضِ ظروفِ الظّلمِ التي تشلِّعُ البلاد، حجراً وبشراً، ينبغي أن يَخضعَ التحرّكُ الشّعبيّ العارِمُ لتقييماتٍ جديدةٍ صارمة، فيُحالُ الزّنادقةُ مُتَصَدِّعو الولاء، المُكَلَّفون بتدمير مقوّماتِ البلاد، والذين يعيشون في جُزُرٍ معزولةٍ عن الإنتماءِ الوطنيّ، الى محاكمةٍ دوليّةٍ تتولّاها الأممُ المتّحدة، آخذةً على عاتقِها، أيضاً، تدبيرَ الحلِّ العادلِ الذي يصونُ حقوقَ الوطنِ البحريّة، عَلَّه، بذلك، أن يرتفعَ الدّخانُ الأبيضُ الذي يُعلِنُ قيامةَ لبنان.