لا تعكس السرية التي يحيط بها أركان السلطة المتحكمة عندنا، المباحثات التي يجرونها مع الوسيط الأميركي بين لبنان وإسرائيل، آموس هوكشتاين، لترسيم الحدود البحرية بين الجانبين، منذ انطلاقها، صورة طبيعية لأي مفاوضات في أي زمان ومكان، باعتبار أن التفاصيل الدقيقة والواضحة لأي مفاوضات، لا تُكشف عادةً إلا عند، أو على مشارف التوقيع على الاتفاقات النهائية بين الأطراف المتخاصمين، وحتى ما بعدها.
فالغموض والضبابية وعدم الشفافية والوضوح لدى الفريق الحاكم، في هذا الملف، أشبه في الواقع، بلصٍّ أو متخاذلٍ، أو مفرِّطٍ أو مرتكبٍ، أو منتفعٍ تطاوله الشبهات يحاول تمرير أمرٍ ما بطريقة لا تكشفه. أو في أفضل الأحوال، كالمقصِّر الذي يحاول التملُّص من تقصيره في أداء واجباته الوطنية والدستورية، ويراهن على أن الأيام إما أن تُنسي الناس، أو تخلق الظروف والمستجدات واقعاً جديداً يجعلها تنسى لانشغالها بهموم ومصائب جديدة.
رئيس مركز المشرق للدراسات الاستراتيجية سامي نادر، يرى، في حديث إلى موقع القوات اللبنانية الإلكتروني، أن “هناك ملاحظات أمكن تسجيلها من زيارة هوكشتاين وفق المعلومات المسرّبة. أهمها، أن من يتولون الحكم تجاوزوا الخط 29 بشكل رسميّ”.
ويشير نادر، إلى أن “هذا يطرح سؤالاً حول كل الجهد الذي بُذل، وبعد تكليف قيادة الجيش بإجراء دراسات تقنية وطوبوغرافية وإنجازها، لم يؤخذ بها، على الرغم من أنه لم يكن مطلوباً القيام بحرب على خلفية الخط 29”.
ويلفت، إلى أن “لبنان تأخَّر كثيراً حول هذه النقطة، منذ العام 2007، حيث ما كان يجب الذهاب إلى قبرص والبحث في المسألة، من دون أن تكون هذه الدراسة منجزة وفي يد الدولة، وكان يجب منذ اللحظة الأولى أن يحضِّر لبنان ملفّه بشكل جيد ومتين قبل البدء بالتفاوض، كما فعلت سائر الدول المعنية، لا أن يبدّل رأيه وموقفه مراراً وتكراراً”.
ويضيف، “الخط 29 يحمل مرتكزات قانونية وعلمية قد تكون أصلب من كل الخطوط الأخرى، لكن الإهمال وعدم التحضير للملف فوَّت على لبنان هذه الفرصة. وعلى الرغم من ذلك، كان ممكناً، وكان لدينا مصلحة منذ نحو سنتين أو ثلاث حين أكملت قيادة الجيش دراستها، في أن ترسل الدولة رسالة إلى الأمم المتحدة وتبلغها بالدراسة والتطورات التي طرأت”.
ويوضح نادر، أن “الدراسة التي أعدَّها الجيش مستندة إلى مرتكزات علمية وحسابية متينة، من دون أن يعني ذلك أنها حقيقة منزلة، لأن الطرف الآخر يمكن أن يتقدَّم بحسابات وخرائط طوبوغرافية ومرتكزات قانونية مختلفة، لكن عندها يكون التفاوض على الطروحات المقدَّمة من الطرفين”.
ويشرح، “حين يقال إن رأس الناقورة، لا شماله، هو حدود لبنان الجنوبية، هذا يفترض مرتكزات قانونية، منها المعاهدة الموقعة بين الفرنسيين والبريطانيين في زمن الانتداب، ومعاهدة الهدنة الموقعة بين لبنان وإسرائيل، وغيرها، ما يعني أن الخط 29 لديه مرتكزات علمية وقانونية. والتذكير بهذه المسألة هو للتأكيد بأنه لو تم العمل على هذا الأساس وحضَّر لبنان ملفّه كما يجب منذ البداية، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، ولكانت عملية المقايضة المطروحة اليوم أقوى بكثير”.
ويشدد نادر، على أنه “حتى هذه اللحظة، الأمم المتحدة تعتبر أن حدود لبنان البحرية الجنوبية، هي الخط 23، بموجب ما يقوله لبنان ذاته والمذكرة التي أرسلها إلى الأمم المتحدة بهذا الشأن في العام 2011، وهذا الخط يمرّ في حقل قانا، ما يعني أن لبنان يكرّس بموجب هذه المذكرة الموقّعة من قبله أن جزءً من حقل قانا ليس له. بالتالي، ألم ينتبه المسؤولون عن الملف في لبنان، قبل اعتمادهم الخط 23، أن تحته بئر غاز ونفط؟”.
والمؤسف أكثر من ذلك، بحسب نادر، أنه “وفق ذلك، لبنان أعطى إسرائيل أفضلية، إذ سلَّم بخروجه من البحث والتفاوض حول حقل كاريش الذي بات تحت السيادة الإسرائيلية بإقرار لبنان، لأنه يقول إن حدودي البحرية الجنوبية هي الخط 23 لا الخط 29”.
واستطراداً، يضيف نادر، “بتنا في وضع، أنه من الناحية القانونية والقانون الدولي، كل التهديدات والقيام بأي عملية من قبل حزب الله على منشآت النفط الإسرائيلية وبدء استخراج النفط من حقل كاريش، هي خارج القانون، والاعتراضات اليوم باتت خارج السياق. ثم ألم يكن حزب الله جزء من الدولة والحكومات والمجالس النيابية منذ العام 2007 على الأقل، لماذا لم نسمع صوته طوال السنوات التي مرّت؟”.
ويلفت، إلى أنه “في الخلاصة، لبنان، بإقراره وتوقيعه، يقول إن كل ما هو شمال الخط 23 يخضع للسيادة اللبنانية، وكل ما هو جنوب الخط 23 يخضع للسيادة الإسرائيلية. بالتالي، ما تحاوله السلطة الحاكمة للخروج من هذا المأزق، هو طرح إدخال تعديلات على الخط 23، من خلال الوسيط الأميركي”.
ويضيف، “إذا كان الكلام لمجرد الكلام، يمكن للبنان أن يطرح تعديلات على الخط 23 تصل به إلى حيفا، لكن السؤال ماذا سيكون رد إسرائيل، وبماذا ستجيب؟ ولماذا ستسير بتعديل الخط 23؟ وفي حال قبلت، مقابل ماذا؟ وأولاً، ما هي طبيعة هذا المقابل وماذا يتضمَّن؟ ثم من هي الجهة التي ستقدِّمه لإسرائيل؟ هل هو لبنان الدولة، الحكومة، أو مجلس النواب، أو حزب الله؟”.
ويرى نادر، أن “الطريقة التي علَّق بها هوكشتاين على نظرية (قانا مقابل كاريش)، طبيعية ومفهومة. فلبنان يطالب بتعديل الخط 23 ويريد (23+)، فيما إسرائيل تعترف بالخط واحد لا بالـ23، والوسيط الأميركي يتحرك ذهاباً وإياباً بين الطرفين، فلماذا ستتخلى إسرائيل عن موقفها، وماذا سيعطيها لبنان في المقابل؟”.
ويضيف، “بينما لو قال لبنان، خطي هو الـ29 وتعالوا إلى المفاوضات، لكان تمكن من إجراء هذه المقايضة اليوم، (قانا مقابل كاريش). لكن في الواقع هذه المعادلة لم تعد قائمة، فحين خرج لبنان من الخط 29، أخرج نفسه في الوقت ذاته من معادلة (قانا مقابل كاريش)، التي لم تعد تستند إلى مرتكز قانوني بعد إقرار لبنان بأن خط حدوده البحرية هو الخط 23”.
أي عملية نسخ من دون ذكر المصدر تعرض صاحبها للملاحقة القانونية