حين بادر البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي منذ نحو سنتين، إلى طرح مشروع حياد لبنان الإيجابي والفاعل، في وجه مشاريع الاستلحاق والاستتباع للمحاور الإقليمية والدولية، حفاظاً على الكيان اللبناني بهويته التاريخية الحضارية، وإنقاذاً له من أزمته الحالية الخانقة نتيجة الخروج على هذه الخصائص اللبنانية، شُنَّت عليه حملة شعواء من قبل ما يسمَّى محور الممانعة وحلفائه، على لسان قيادات أساسية، سياسية ودينية، ومن خلال بعض أبواقه الصفر، وصلت أحياناً بوقاحة تخطَّت حدود الأخلاق إلى حدِّ اتهام البطريرك بالخيانة وخدمة أعداء لبنان.
ومنذ اللحظة الأولى، كان من الواضح أن الهدف الأساسي من تلك الحملة، المستمرة حتى اليوم بأشكال مختلفة، كان وأد مبادرة الراعي في مهدها وقطع الطريق على تمدُّد التأييد لها في الأوساط الداخلية وعلى المستوى الإقليمي والدولي. خصوصاً أن البطريرك الراعي أرفق مبادرته تلك بالدعوة إلى مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة لتأكيد وضمان حياد لبنان عن الصراعات الإقليمية وسياسة المحاور، انطلاقاً من واجبها القانوني الدولي تجاه بلد عضو مؤسس فيها يشكل نموذجاً فريداً على مستوى العالم.
لكن كل رهانات الفريق المهيمن على الحكم في لبنان، على تراجع الراعي عن مبادرته سقطت، ومن ضمنها رهانه على تنفيس طرح الراعي بغطاء مسيحيّ بالذات قبل الآخرين، من خلال حلفائه المسيحيين الذين قابلوا مبادرة البطريرك بفتور ومواربة ومناورات.
وما حصل هو العكس تماماً، مع فقدان هذا المحور لغطائه المسيحي بنسبة كبيرة من خلال ما أكدته نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، في حين إن مشروع الراعي يتوسّع ويتمدَّد ويلقى آذاناً صاغية على مستوى الداخل والخارج.
ويبدو أن مبادرة الراعي في طريقها إلى أن تتحوَّل مشروعاً جدياً متكاملاً، بتبنٍّ ودعم داخليّ وازن، سواء على المستوى البرلماني أو السياسي العام أو الشعبيّ. والمسألة انتقلت من مستوى المبادرة والإعلان عن نوايا ومطالب، إلى مستوى صياغة مشروع الحياد والخطوات العملية للوصول إلى تحقيقه، بما يضمن إنهاء مسلسل الأزمات اللبنانية وعودة لبنان إلى هويته وأصالته، وإخراجه من العزلة العربية والدولية التي زُجَّ فيها قسراً، وبما يثبِّت الدولة واستقرارها وازدهارها بضمانات دولية.
وتؤكد مصادر كنسية، في حديث إلى موقع القوات اللبنانية الإلكتروني، أن “المرحلة المقبلة ستشهد تركيزاً على جانبين أساسيين: الأول، يتعلَّق بالبعد الخارجي للدولة في لبنان، لجهة اعتماد الحياد الذي يشكّل المدماك الأول لقيام الجمهورية اللبنانية وميثاق العام 1943″، مضيفة أنه “لولا الحياد، لَما وُلدت الجمهورية، ولما وُلد الاستقلال، ولَما كانت جمهورية ودولة واستقرار”.
وتشدد المصادر ذاتها، على أن “الميثاق هو المدماك الأول الذي أساسه الحياد، والبنية الأساسية التي سمحت بقيام الدولة واستقرارها وازدهارها بين عامي 1943 و1975. وعندما سقط الحياد في العام 1969 مع اتفاق القاهرة وأدّى إلى الحرب الأهلية في العام 1975، سقط لبنان”.
وتضيف، أنه “لا قيامة حقيقية وفعلية للبنان سوى من خلال إعادة الاعتبار لهذا الحياد، الذي يُعمل عليه داخلياً من خلال تأمين كتلة نيابية وسياسية ووطنية وشعبية صلبة تشكِّل الرافعة لهذا العنوان، من أجل القيام بكل الاتصالات اللازمة مع المجتمع الدولي لإقرار والاعتراف بهذا الحياد، الذي من دونه، كما أثبتت التجربة منذ خمسة عقود إلى اليوم، يعني استمرار اللااستقرار، فيما الحياد يعني الاستقرار والازدهار. لذلك، التركيز والشغل الشاغل لبكركي، وللقوى السياسية المعنية، سيكون من أجل وضع الحياد موضع التنفيذ في المرحلة المقبلة”.
أما العنوان الثاني الذي سيتم التركيز عليه، توضح المصادر الكنسية عينها، أنه “يتعلَّق بالعنوان الداخلي للدولة المتصل باللامركزية، وضرورة إقرار قانون اللامركزية بعد أن يصار إلى إعادة بنيان الجمهورية اللبنانية، مع رئيس جمهورية جديد، ورئيس حكومة وحكومة جديدة”.
وتؤكد، أن “هذا أحد العناوين الأساسية التي سيُعمل عليها بقوة في المرحلة المقبلة، لجهة ضرورة إقرار اللامركزية الموسّعة إلى أبعد حدود، والتي من خلالها يُستعاد الإنماء المتوازن المطلوب، ويتم تثبيت الناس في أرضها، وتتأمَّن فرص العمل، ويعاد الاستقرار والازدهار للمناطق. وهذا العامل يشكّل حالة شعبية مطلوبة انطلاقاً من حاجة الناس إلى الإنماء المتوازن وضرورة الذهاب إلى اللامركزية، لأنه من دونها سيبقى الواقع اللبناني مأزوماً”.
وتشدد، على أنه “لا يوجد أي دولة في العالم اليوم محكومة بمركزية فاقعة، خصوصاً في أحدث الدول والأنظمة، حيث لم تعد المركزية قائمة. فلا يوجد أي دولة في العالم المتقدم، على الرغم من تطورها وحداثتها وقدراتها، تستطيع تأمين احتياجات ومتطلبات الناس، فكيف بالحري في دولة فاشلة مركزياً مثل لبنان، وفي ظل محاصصات وتسويات وصفقات ومساومات وسمسرات؟ لذلك، يجب الذهاب إلى لامركزية موسّعة، من ضمن إدارات واضحة المعالم والقوانين”.
بالتالي، وفق المصادر الكنسية نفسها، “كل التركيز سيكون باتجاه عنوان الدولة الخارجي المتعلق بالحياد، وعنوان الدولة الداخلي المتعلق باللامركزية، وطبعاً من خلال تأمين الكتلة البشرية التاريخية الداعمة لهذين العنوانين، اللذين من خلالهما يصار إلى تثبيت ركائز الدولة واستقرارها وازدهارها”.
أي عملية نسخ من دون ذكر المصدر تعرض صاحبها للملاحقة القانونية