وقف البطرك الماروني وصرخ، “أنتم أيّها المسيئون إلى كرامة اللبنانيين، كفّوا عن قولكم إن المساعدات تأتي من العملاء، واذهبوا بالاحرى وابحثوا في مكان آخر عن العملاء، وأنتم تعلمون أين هم ومن هم”. كلام مباشر عالي النبرة، لا تنطق به بكركي عادة الا اذا استشعرت الخطر الكبير الداهم على الكيان والشعب والكرامة والسيادة. كلام سكر به الشعب المنتظر صرخة بكركي المدوية في ضمير الكرامة والسيادة.
شو يا سيدنا دق الكوز بالجرة؟ نعم حصل، دق الكوز وبدأ يحطم كل شي جميل شريف مشرّف في لبنان. ولكن الكوز لا يعرف، او لعله لا يريد أن يعرف، ان في لبنان صرحاً من عمر الارز، كلما امتدت يد لتقطع غصنا، تمد اياديها وشلوشها العميقة المغروزة في عمق التاريخ والجغرافيا، وتقطع عن الارز ايادي اليباس، والتاريخ أكبر شاهد على ما نقول.
بكل فخر نقول عايشنا زمن بطريرك الاستقلال الثاني، مار نصرالله بطرس صفير، على الاقل عاصرنا رجلاً صنع لنا فخراً انتصاراً عزاً كرامة شهامة ايمان قداسة حتى البطولة. لا انسى وجهه المتجهم العابق كرامة حين انتفضت البطريركية المارونية على الاحتلال السوري العام 2000، وطالبت في بيان المطارنة الشهير، بجلاء ذاك الاحتلال المقيت عن لبنان، وذلك اثر احداث 7 آب التي جند خلالها الاحتلال عملاءه لاعتقال الشباب، انتقاماً من زيارة البطرك الى الجبل واعلان المصالحة التاريخية، ومن بعدها بدأ حجر الانتفاضة يكبر ويكبر، والاحتلال يصغر فيصغر الى ان شيعته عيون اللبنانيين باحتقار وذل ما بعده ذل، في ذاك الـ26 نيسان 2005 المجيد.
العام 2022، يتكرر المشهد اياه، وها نحن نعاصر بطريركياً تاريخياً سيكون له حروف الذهب في سجل الكرامة، وتحرير لبنان من احتلال لعله الاسوأ على الاطلاق. انتفضت البطريركية المارونية من جديد انما على الاحتلال الايراني هذه المرة، ولعل الرب شاء ان يكون المطران موسى الحاج، هو رسول السماء ليتفجّر لبنان بالكرامة والمواجهة انطلاقاً من بكركي. اذ ان تعرّض السلطة للمطران موسى الحاج، واذلاله على حدود لبنان وهو عائد من الاراضي المقدسة حيث يعمل خادماً للرعية هناك، وهو مكلف من قبل البطريرك بتأدية رسالته الدينية والانسانية، ونهبه اموالاً هي امانات ومساعدات وادوية واغراضاً شخصية بهدف النيل من البطرك الراعي، كان تصرفاً غير مسبوق بتاريخ لبنان وتاريخ البطريركية، ولعلها الشرارة السماوية لبدء العد العكسي لاندحار الاحتلال.
أوقفوا المطران ليناولوا من البطرك بسبب مواقفه السيادية المطالبة بحياد لبنان وبمؤتمر دولي لاجله، والرافضة لاداء السلطة وفسادها ولهيمنة السلاح والدويلة على الدولة. اعتقلوا المطران لينالوا من البطرك، فكانت النتيجة ان البطريركية والشعب اللبناني بغالبيته العظمى، مسلمون ومسيحييون، نالوا منهم بتأييدهم غير المتوقع بالنسبة اليهم لمواقف بكركي.
“البطرك صفير حي فينا صرخ الراعي”، صرخ الراعي أمام الجموع التي احتشدت في باحة الديمان تأييداً لمواقفه، “وبطاركة لبنان أبطال الاستقلال احياء فينا جميعا” أضاف. قبل أشهر قليلة، اصدر البطريرك بياناً شهيراً تحت عنوان “لا تسكتوا”، جُن يومها الممانعون المحتلون واحزاب السلطة المتواطئة معهم، اذ اعتبروه بيان حرب موجهاً ضدهم، في حين تمسك الشعب اللبناني الحر، مسلم ومسيحي، بكل حرف مما قاله الراعي واعتبروه دستور حياة وكرامة.
طالبت بكركي الا نسكت، وسمعنا الكلمة ولم نسكت، وبكركي استمعت الينا ولهتافاتنا بانتباه شديد، وتماهت معنا في الوجع والصراخ، الى حد انها صارت تصرخ مثلنا وتسبقنا بالمواقف العالية. ليست الرعية في واد والراعي في واد، الراعي يسبقنا بالخطوات وهو أمامنا جميعاً، ونحن مع البطريركية المارونية مناضلون معه خلفه الى جانبه، الى ابد النضال.
“ارهابي ارهابي حزب الله ارهابي” صرخ الشعب في باحة الديمان، لم يرفع سيد بكركي يده ليسكت الناس، بل استمع اليهم مبتسماً، وانتظرهم لينتهوا من الهتافات المعادية لارهاب الفصيل الايراني في لبنان، ثم اكمل كلمتة القصيرة المدوية باعلانها الانتفاضة والمقاومة والنضال ضد الاحتلال وازلامه، بمساعدة الشعب اللبناني السيد الحر. كأن البطريرك يريد ان يتماهى حتى النهاية مع هتافات الشعب، مع قهر السنين الطويلة، مع ذل الايام الذي سكن بيوتنا وصار خبزنا بدل الرغيف. سكت البطريرك عن مناداتنا الواضحة الفاقعة تلك، لانه عرف ان ما عاد بامكان الشعب السكوت، ولا تحمل احتلال لم يتردد عن توسيع ارهابه ليصل الى قلب الكنيسة، ليجعلها الهدف الرئيس للنيل من جبّة الكرامة والايمان والعنفوان، لانه يعلم انه اذا طوّع بكركي يعني انتهى لبنان، وهم يريدون نهاية لبنان.
بكلمات متفجّرة بمعانيها، بدا سيد بكركي وكأنه يأمر من يخالف قيم الايمان والحرية والاستقلالية، بان اما ان يستمع الينا ويلتحق بنا، واما الموجهة حتى النصر “آن الأوان لتغييرِ هذا الواقع الطافح بالأحقاد والكيديات، والمكتظ بالسلوكيّات المعيبة بحق القائمين بها أولا”، ونقطة على الاف السطور.
“من غير المقبول أن يخضع أسقف لتوقيف وتفتيش من دون الرجوع إلى البطريركية ونرفض هذه التصرفات البوليسية ذات الأبعاد السياسية” قال، ولعل قمة الثورة حين اعتبر ما حصل “اهانة شخصية لي انا”. ثم اعتدل البطريرك بوقفته وقال للشعب المتجمهر الغاضب العابق بثورة تنتظر لحظة توثبها، وبالفم الملآن عنفواناً من صخر جبال قنوبين وعبق بخور القديسين فيه، وصلابة جباه البطاركة الموارنة “رجعوا كل الامانات للي صادرتوها من المطران الحاج، رجعوها اليوم قبل بكرا، ومنقلن المطران رح يكمّل رسالته الانسانية، ومنقلن، مش منطلب منن ولا منترجاهم، منقلن ممنوع ممنوع ايقافه ومساءلته على الحدود اللبنانية، هيدي ما صارت بتاريخ البطريركية، شو معناها؟ هني بيعرفوا، ونحنا منرفض رفض قاطع كل للي حصل”.
البطرك صفير حي فينا. البطرك الراعي حي فينا ومعنا، 77 بطريركاً في تاريخ الكنيسة المارونية، عانوا الاحتلالات فحولوا صلبان الوطن الى قيامة. 77 بطريركاً، عايشوا الظلم والقمع والفساد والعملاء، وبقيت صلبانهم علامة الانسانية فوق جبال لبنان، وبقي لبنان العلامة الفارقة على مر الاحتلالات والعصور. احتلنا الغرباء وقاومت بكركي وانتصرت. يحتلنا ابن البلد لاجل غريب، لن تتغير عاداتنا ولا نضالاتنا ولا خطابنا، اذ “من عركة لعركة بكركي لا نورا ولا زيتا شح، كلن بيحكوا…فارسي الا بكركي بتحكي صح”. وان الاستقلال الثالث لناظره قريب يا بكركي يا قلب لبنان.