هوية لبنان في عهدة البطريركية المارونية… نكون أو لا نكون!

حجم الخط

كتبت جومانا نصر في “المسيرة” – العدد 1731

هوية لبنان في عهدة البطريركية المارونية 

ولن نسمح بتغييرها

نكون أو لا نكون!

يُحكى أن الرّئيس فؤاد شهاب كان على خلاف مع سيّد بكركي آنذاك البطريرك بولس المعوشي، فتدخل كل من الرئيس سامي الصلح والشيخ بيار الجميّل لِمُصالحتهِما، فلم يمانِع وقال: «إذهبا إليه، وإذا تبيّن أن الحق معهُ، أصعدُ الى بكركي حافياً وأُقبّل يده وأعتذر منهُ، أمّا إذا تبيّن العكس فليسامِحهُ اللّه». أما جواب البطريرك المعوشي فكان «أنا سأذهب لزيارة الجنرال». وطلب منهما إستمهاله ثلاثة أيام. إلا أن القدر شاء أن لا يتم هذا اللقاء لفض الخلاف بسبب وفاة الرئيس فؤاد شهاب في اليوم الثالث، فكان البطريرك المعوشي أوّل الواصلين الى منزله برفقة المطران أنطوان خريش. صلّى على الجسَد الصامت وأطلق على الجنرال الرّئيس صفة” الصّامت الأكبر» التي تحوّلَت لاحقاً إلى صفة ملازمة للمؤسسة العسكرية! وللمرة الأولى التاريخ لا يعيد نفسه!

فما حصل مع النائب البطريركي على  الأراضي المقدّسة والمملكة الهاشمية المطران موسى الحاج عند معبر الناقورة لجهة إخضاعه للتحقيق والتفتيش من قبل عناصر الأمن العام، إضافة إلى مصادرة هاتفه المحمول والأمانات التي كان يحملها من أموال إلى عائلات مسيحية وسواها أفاض كأس صبرالكنيسة بما اقترف في حق أحد أبرز رموزها… لكن غاب عن متلبسي صفة القانون والأمن أن ما قاموا به لم ولن يهز ركائز الصرح البطريركي الذي صمد في وجه ممالك وسلطنات ودول واحتلالات واليوم في وجه دويلة «حزب الله» وسلاحه.

 

كان يا مكان… فماذا عن اللحظة؟

سموها ما شئتم. سابقة، ظاهرة، وصمة عار لم تُسجل في تاريخ لبنان حتى في عهد جمال باشا…. لا فرق. طالما أنه حصل ما حصل. صحيح أن رأس الكنيسة المارونية والأساقفة لم يسمّوا بالأسماء من تجرأوا على التطاول على أحد أبرز أساقفتها، وألصقوا تهمة العمالة به، غير آبهة ببكركي وبيانها وتحذيراتها. إلا أن الجهات المُقترفة واضحة وضوح الشمس بين سطور بيان المجمع الدائم لسينودوس أساقفة الكنيسة المارونية، لا سيما في البند السادس الذي استغرب صمت الدولة وطالب وزير العدل باتخاذ الإجراءات المسلكية اللازمة بحق من تثبت مسؤوليته، ومدعي عام التمييز بإحالة القاضي فادي عقيقي الى التفتيش القضائي وتنحيته، كما بوقف المسرحية الامنية القضائية السياسية.

«هم يعرفون من هم العملاء ومكانهم» قالها البطريرك الراعي في «يوم الزحف إلى الديمان» إستنكارًا للرسالة التي حاول «المتلبسون» صفة الوطنية والقانون توجيهها إليه من خلال توقيف المطران الحاج 12 ساعة ونصف عند معبر الناقورة. مواجهة كان لا بد منها لمواجهة خطورة المخطط وتصويب البوصلة في الإتجاه الصحيح، لكن ليس عبر بيانات ومواقف، وقد أخطأ بعضها الهدف بالتوجّه الى قائد الجيش العماد جوزف عون لاتخاذ إجراء إقالة القاضي عقيقي، علمًا أن الأخير لا يخضع لسلطة  قيادة الجيش ولا حتى  لوزارة الدفاع الوطني ولا صلاحية لهما للتدخل في عمله أو التحقيق معه، كونه مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية ويخضع تاليًا لسلطة مدعي عام التمييز ومجلس القضاء الأعلى.

ما يُفترض لا يُطبق! وما يُفترض ورد باقتراح قانون تقدم به النائب السابق إيلي كيروز، في 13 أيار 2015 من رئيس المجلس النيابي نبيه بري يرمي الى تعديل قانون العقوبات العسكرية الصادر في القانون رقم 24/68  إنطلاقاً من الأسباب الموجبة التالية:

–  أن المحاكم العسكرية بحكم تكوينها غير القضائي هي محاكم إستثنائية لا تتمتع بالضمانات القضائية اللازمة ولا تمارس التعليل في قراراتها، وهي بالتالي خارج مفهوم الرقابة القانونية على عمل القضاء.

– أن المطالبة بحصر اختصاصها في إطار المعاقبة على الجرائم العسكرية المحددة في قانون العقوبات العسكرية هي مطلب حيوي وأساسي للعدالة لأن إتساع صلاحياتها يمس حقوق الإنسان ومبادئ المحاكمة العادلة.

– أن محاكمة العسكري أمام قضاء عسكري مؤلف بغالبيته من قضاة عسكريين يشكل حصانة غير مبررة لهذا العسكري ويؤلف إستثناءً مناقضاً للمبادئ الجزائية العامة ويحمل اعتداءً على مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون وأمام العدالة.

– وانطلاقاً من ضرورة تفادي إحالة أي مدني بصفة مدعى عليه أو متدخل أو شريك أو محرّض أو فاعل معنوي أو مخبّئاً، أمام القضاء العسكري، نظراً لعدم توفر ضمانات محاكمة عادلة وشروط ممارسة حق الدفاع وحقوق الإدعاء الشخصي لهذا المدني أمام القضاء العسكري.

– أن العسكريين يتمتعون أسوةً بسواهم من المتقاضين أمام المحاكم العدلية المختصة بكل الضمانات المتعلقة بحقوق الدفاع. وأخيرًا إنطلاقا من أن الخشية من المحاكم العسكرية رافق وجودها.

في عهد الرئيس فؤاد شهاب، خشي الرئيس القادم من رأس هرم المؤسسة العسكرية، من الدور المنوط بالمحاكم العسكرية ورغب في حصر دور هذه المحاكم بمراقبة الإنضباط العسكري. وهو قال في هذا المجال: «إن أساس وخلفية إيجاد المحاكم العسكرية هو مراقبة الإنضباط والحزم والصرامة في الإمتثال للقوانين العسكرية». وخوفاً  من افتئات المحاكم العسكرية على المواطنين المدنيين الذين هم خارج المؤسسة العسكرية وقوانينها ولا يخضعون لأحكامها، ومن أجل تشكيل ضمانة بسيطة في هذا المجال قرر الرئيس شهاب تعيين  قاضٍ مدني في المحكمة العسكرية.

 

حصل ذلك في عهد الرئيس فؤاد شهاب. لكن ماذا عن اللحظة؟

توقيف المطران موسى الحاج من قبل مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي على معبر الناقورة سابقة وعمل غير مألوف، إذ لم يسبق أن مثُلَ أي أسقف أمام المحاكم المدنية والعسكرية في لبنان سابقاً، ولم يتم توقيف أسقف كما حصل مع المطران موسى الحاج مهما حاول بعض الملتفين على القانون تصوير ما حصل بأنه يستند إلى مواد قانونية.

أبعد من محاولات الإلتفاف على القانون والإجتهادات التي يستند إليها هذا «البعض»، هي ليست المرة الأولى التي يدخل فيها المطران الحاج إلى لبنان عبر معبر الناقورة ويحمل معه أمانات. المطران بولس الصياح فعلها عندما كان مطراناً على أبرشية حيفا والأراضي المقدسة. أيضًا وأيضًا، الموضوع ليس موضوع تطبيع كما ذهب بعض المتلبسين صفة «المحللين» تصويره.  فلا الكنيسة ولا المطران الحاج يطبّعان. وللتذكير، فإن الكرسي البطريركي صنع الإستقلال الأول والثاني ولا يزايدن أحد عليه في الإنتماء الوطني. أما وقد أرادوها حربًا خلف ستارة القانون، فالسؤال يطرح: تحت أي قانون يُحاكم المطران؟ هل يكون وفق القانون المدني أم الكنسي ومن يملك سلطة محاكمته؟

الأكيد أن القاضي فادي عقيقي اطلع على القرار الصادرعن القاضي فادي صوان منذ حوالى الشهرين الذي منع بموجبه المحاكمة عن المطران موسى الحاج إستنادا الى القانون 1060 الصادر عن مجموعة الكنائس الشرقية عام 1990 والذي وقع عليه لبنان عام 1991. وينص القانون على أنه «يعود للحبر الروماني دون سواه الحق بمحاكمة الأساقفة في الدعاوى الجزائية، وبالتالي لا يحق لأي سلطة مدنية كانت أو عسكرية أن تحاكم أي مطران في قضايا جزائية». فهل يعقل أن يكون مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة ضرب عرض الحائط بالقرار المعلّل؟

قد يكون عقيقي أساء فهم القانون الكنسي وأراد تطبيق  قانون مقاطعة إسرائيل من دون أن يأخذ في الإعتبار الأعراف الدولية والحصانة الدولية والقانون الفاتيكاني الصادر عام 1990، وإلا كان عليه أن يقوم أسوة بما قام به القاضي صوان ويرده نظرًا إلى عدم الصلاحية، لكن ما ورد في قرار القاضي صوان يستند إلى أسباب قانونية جدية. حتى أن تعاطي الدولة اللبنانية مع المرجعيات الروحية قائم منذ زمن بعيد على الترخيص للمراجع الروحية بزيارة رعاياها في الأراضي المحتلة، مما يؤكد أن هناك أعرافاً ديبلوماسية ثابتة على مر العقود تمنح المرجعيات الروحية ما يمكن تسميته بالحصانة الديبلوماسية.

في الكلام عن الحصانة الديبلوماسية لا بد من التأكيد على أن هذه الحصانة تشمل الحقيبة الديبلوماسية التي تفترض عدم المس بها والإطلاع على محتوياتها ولا حتى حجز ما تحويه. فلماذا تم حجز هاتف المطران الحاج المحمول ولماذا تم تفتيشه؟ الأموال النقدية مشبوهة المصدر؟ أثبتوا ذلك!  الأدوية مصنّعة في إسرائيل؟ ماذا عن البضائع التي تعوم الأسواق اللبنانية بأسماء ووكالات مشبوهة؟

حصل ما حصل مع المطران الحاج والإرتدادات نرجو ألا تكون على الطريقة اللبنانية فتنتهي «بتبويس اللحى والمسح بالذقون»، وإن كان كلام البطريرك الراعي من دير مار سركيس وباخوس الذي أكد  فيه «أن البطريركية لن تستبدل قلب البشر بقلب من حجر»، بمعنى أنها لن تتوقف عن حمل الأمانات من أراضي فلسطين المحتلة إلى العائلات المحتاجة بواسطة النائب البطريركي. فهل يسترد المطران  الحاج الأمانات الإنسانية التي تنتظرها العائلات المحتاجة والموجوعة ؟

بحسب القانون يُفترض أن يطعن كل ذي مصلحة وصفة إضافة إلى المطران الحاج بقرار القاضي عقيقي لاسترداد الأغراض المحجوزة وتتحمّل المحكمة العسكرية، مسؤولياتها فهناك حصانة ديبلوماسية وأعراف. وإما أن نكون في دولة قانون أو دولة تبويس لحى… ما عدا ذلك كلام في السياسة.

لعل المطلوب أكثر من موقف وطني وتغريدات وردود فعل شعبية ووجدانية. المطلوب الإجابة عن السؤال: من يحاسب القاضي فادي عقيقي، وهل سيمارس التفتيش القضائي مهامه ويقول كلمته إما بإحالة عقيقي إلى المجلس التأديبي أو بقائه في منصبه كمفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية كونها لم تثبت عليه أية أدلة تستحق محاسبته؟

إذا سلمنا بأن القاضي عقيقي أصدر قرارا بتوقيف المطران الحاج بموجب إخبارات «تنامت» إليه من هنا وهناك ومن جهات غيورة على مصلحة الوطن، لكن الحكمة تقضي بأن يتقصّى القاضي ويطلب المزيد من الأدلة والوثائق الخطية التي تؤكد صحة هذه الإخبارات، لا سيما وأن المشتبه به مطران ووكيل بطريركي. هذا في القانون أما في السياسة، الرسالة واضحة وكذلك مصدرها ووجهتها.

العائدون من الديمان يؤكدون أن البطريرك الراعي منزعج جدا مما حصل ولديه الكثير الكثير من التساؤلات، وللمرة الأولى قد يرفض مبدأ المهادنة والكلام على طريقة «اللبيب من الإشارة يفهم».

قال ما قاله البطريرك الراعي وثمة الكثير بعد. وما لم يسمعه المعنيون مباشرة بالرسالة التي أرادوا إيصالها إليه عبر توقيف نائب بطريركي يمثل البطريرك نفسه مفاده أن التاريخ لن يكتب ما حصل مع المطران موسى الحاج مرتين. وعصا بكركي لم ولن تهزها رسائل مبطنة ولن يرهبها سلاح حزب ومنظومة مرتهنة، وما بعد توقيف المطران موسى الحاج لن يكون كما قبله.

ولمرة واحدة ونهائية  التاريخ يعيد نفسه مع سيد بكركي بكلمتين… لن نسمح بتغيير هوية لبنان… فإما أن نكون أو لا نكون!

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل