لم يخطئ من وصف انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 بأكبر انفجار غير نووي في العالم، يومها توقّف قلب بيروت عن الخفقان، سالت الدماء أنهاراً، ودمّرت أجزاء كبيرة من بيروت التي أصيبت بجراح عميقة لم تندمل بعد رغم مرور عامين على وقوع الانفجار المروع. فالانفجار أعاد إلى الأذهان مشهد بيروت في الحرب الأليمة، وللوهلة الأولى لم يفكّر أهالي بيروت إلا بالنجاة بأنفسهم وحصر أضرارهم المادية والجسدية والنفسية. لم يكن أحد يعلم ان وجود مواد نيترات الأمونيوم في المرفأ يعود إلى سبعة أعوام من الإهمال، حيث تعاقب رؤساء وقادة في الجيش اللبناني وضباط ومدراء ووزراء وحكومات، ولم يبادر أحد إلى إثارة موضوع هذه المواد المخزّنة في العنبر رقم 12! والمفارقة أنه عندما وقعت الكارثة أخذ الجميع يتنصّل من المسؤولية، وكأن لبنان كان محكوماً من “الأشباح” لا منظومة سياسية فاسدة وماكرة، راهنت على استبقاء هذه المواد في مرفأ بيروت رغم خطورتها البالغة ونصائح بعض العارفين بتأثيراتها وإمكانية انفجارها.
عندما لملم الناس أنفسهم، ودفنوا ضحاياهم، ورمموا بيوتهم ونظفوا شوارعهم من الركام ووعوا من الكارثة، راحوا يتساءلون عن حقيقة ما جرى في تلك اللحظة المأساوية التي لا تُنسى: اهمال؟ هجوم اسرائيلي؟ من أتى بهذه المواد؟ ومن استخدمها، ولماذا اهملها بعض المسؤولين؟ وماذا كان يوجد في محاذاتها؟ من استخدمها؟ من فجّرها؟ ولماذا؟ هل حياتنا رخيصة إلى هذا الحد؟
سلسلة اسئلة رأى البعض أن لا أحد سيجيب عنها سوى تحقيق دولي، هذا ما فكّر فيه بعض المتضررين المجروحين، وهذا ما طالبت به بعض القوى السياسية غير المتورطة بالانفجار، لكن في المقابل كانت أصوات القوى السياسية المعارضة لأي تحقيق دولي أقوى، فسلّم الجميع بتحقيق محلي أجراه الجيش اللبناني والقوى الأمنية المولجة مع الاستعانة ببعض الاختصاصيين الأمنيين الدوليين من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية!
بعدها كُلّف القاضي فادي صوان كمحقق عدليّ في 13 آب 2020، وبدأ عمله مدققاً في الوقائع تحديد المسؤوليات، وسرعان ما استدعى الوزراء علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس ورئيس الحكومة حسان دياب، فرفض هؤلاء الامتثال أمامه للتحقيق، بل قدم خليل وزعيتر مذكرة قانونية بسبب “الارتياب المشروع” زاعمين أن صوّان افتقد إلى التعاطي بتجرّد وحيادية في هذا الملف، كونه أحد المتضررين من انفجار المرفأ جرّاء تعرض منزله في الأشرفية لأضرار مادية. واللافت ان خليل وزعيتر محسوبين على رئيس مجلس النواب نبيه بري، وفنيانوس كان ممثلاً لتيار المردة في الحكومة السابقة، ودياب رئيس حكومة مؤلفة من وزراء للتيار الوطني الحر و”حزب الله” وحركة “أمل”.
هكذا كفّت محكمة التمييز يد المحقق العدلي صوان عن الملف، ودعت إلى تعيين قاضٍ آخر لتولي هذه المهمة، علماً أن صوان أرسلت إليه أيضاً قطة مذبوحة كرسالة تهديد، وهذا ما يعني أن القوى السياسية المتضررة من اتجاهات التحقيق الذي قاده كانت تمارس هجوماً وقائياً عليه نتيجة ذعرها من التحقيق.
في 19 شباط 2021 عيّن القاضي طارق البيطار محققا عدلياً، ومنذ ذلك الحين أصر البيطار استناداً إلى تحقيقاته على استدعاء رئيس الوزراء حسان دياب، وخليل، وزعيتر، ووزير الداخلية السابق نهاد المشنوق للتحقيق، وسقطت بعض دعاوى “الارتياب المشروع” ضده، إضافة إلى طلبه استجواب مسؤولين أمنيين كبار.
وهنا سلسلة عراقيل وُضعت في درب البيطار منذ ايلول حين تقدم المشنوق بطلب أمام محكمة الاستئناف لعزل البيطار، فرُفض طلبه. في تشرين الأول 2021 تقدم حسن خليل وزعيتر إلى المحكمة بطلب ثان لتنحية البيطار، فعلق الأخير جلسات التحقيق إلى حين البت بالطلب، كما أصدر في الشهر عينه مذكرة توقيف بحق خليل لامتناعه عن المثول أمامه. في 14 تشرين الأول 2021 رفضت محكمة التمييز طلب عزل البيطار.ومنذ 23 كانون الأول 2021 توقف البيطار عن التحقيق بفعل توالي دعاوى الرد ضده.
لكن هذا ليس كل شيء، لأن “حزب الله” طوال هذه الفترة اصيب بما يسمّى “فوبيا” قاضي التحقيق طارق البيطار، ويظهر الإرباك واضحاً بعد التهديد الذي وجهه المسؤول عن وحدة الارتباط والتنسيق في “حزب الله” وفيق صفا للبيطار، مفجّراً قنبلة صوتية تشكّل سلسلة من سلسلة قنابل رماها الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله بالارتياب والتشكيك بالبيطار وأدائه، بل كاد أن يفجّر حرباً أهلية، عندما نظّم تظاهرة نحو قصر العدل ضد البيطار، ثم انحرفت التظاهرة عن دربها وسلكت الطريق المتجهة إلى عين الرمانة حيث ظهرت الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، مما اضطر أهالي عين الرمانة إلى الدفاع عن أنفسهم!
“مواجهة ” حزب الله” للبيطار لم تكن بريئة، بل أخذ يضرب فيها تحت الحزام لإلحاق الأذى بالتحقيق وفرملته، على الرغم من أن الأسماء التي طلب البيطار التحقيق معها لا تنتمي إلى “الحزب” كرئيس الحكومة السابقة حسان دياب ووزير المال السابق علي حسن خليل ووزيري الأشغال السابقين يوسف فنيانوس وغازي زعيتر والمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم ووزير الداخلية السابق نهاد المشنوق”. وهنا نتساءل “لماذا خاف “الحزب” من استدعاء هؤلاء؟ وما علاقته بهم؟ الجواب ليس سراً إلا أنه قد يُفاجئ البعض، ويكشف مسؤول أمني سابق أن “الحزب لديه معطيات بأن التحقيق مع هؤلاء قد يكشف تورطه بأمر معيّن في ما يخص وجوده ونفوذه في المرفأ وربما علاقته بمواد نيترات الأمونيوم وإلا لماذا الخوف من مسار التحقيق الذي يقوده البيطار؟ ولماذا الاستشراس بتهديده والانقضاض عليه بعد الانقضاض على صوان سابقاً؟ وبالتالي كل قاض نزيه سيحاول اتخاذ المسار القانوني نفسه سيلقى المصير نفسه”.
ويذهب المسؤول الأمني السابق إلى كلام غير مسبوق بل مثير للفضول في هذه القضية ويؤكد:”ردة فعل “الحزب” تضعه في دائرة الشبهات أكثر، وإذا افترضنا أنه ليس متورّطاً، فهو لديه مسؤولية في تقديم معلومات إلى المحقّق العدلي. فلا ريب ولا أدنى شك انه على دراية بما كان يجري في المرفأ، ومن يحكم ومن يسيطر ومن يفسد ومن يتواطأ، لا سيّما أنّ عدداً من عناصره سقطوا ضحايا في انفجار المرفأ، كما قال أمينه العام غداة الانفجار. واذا كان من اتّهام لـ”الحزب”، فهو ناشئ من معرفة اللبنانيين أنّه باسم “المقاومة” كان يدخل الى المرفأ، وينشر موظفين تابعين له في جميع مفاصله، ويمتلك بوابةً خاصة بالمرفأ اسمها بوابة “حزب الله” شبيهة بالمعابر البرية مع سوريا المعروفة بخطوط الحزب العسكرية، ويدخل عبر هذه البوابة ممنوعات وبضائع متنوعة، تدخل إلى لبنان بأوراق مزوّرة عبر شركات تخليص جمركي وهمية تتبع لـ”حزب الله”. وباسم المجلس الشيعي كان يستورد بضائع من الخارج مُستفيداً من الإعفاءات الجمركية، وفي اعتبار المرفأ أهمّ نافذة تجارية وربّما أمنية لبنانية على الخارج، فمن الطبيعي بحسب ما يقدّم نفسه “حزب الله”، أن يكون لديه الكثير مما يفيد به التحقيق في شأن الانفجار الكارثي وخلفياته. لذلك، فإنّ عدم تقديمه لهذه المعلومات هو اتهام بل إدانة له، وكلام نصرالله على أن لا نفوذ لحزبه في المرفأ غير واقعي ومُضلِّل، ومن هنا، فإنّ توجيه جزء كبير من الشعب أصابع الاتّهام له حول انفجار المرفأ، يبرّره ايضاً كل هذا الدور الذي يضطلع به أمنياً وعسكرياً على كلّ المعابر الشرعية وغير الشرعية وعلى كل الحدود اللبنانية وما بعد الحدود. والأهمّ من ذلك كلّه كونه فعلياً سلطة الوصاية على الدولة التي صارت دويلة أمام مهام وصلاحيات دويلته التي تجاوزت حدود الدولة وسيادتها”.
ويلفت المسؤول الأمني السابق إلى “أن نصرالله منذ البداية أراد أن يكون انفجار المرفأ جريمة إهمال، والسؤال المحق: كيف عرف ذلك؟ علماً أنه دعا المتضررين إلى التوجه نحو شركات التأمين للحصول على التعويضات! وقد كانت مطالبته القضاء وقبله قيادتي الجيش وقوى الأمن الداخلي لافتة بإعلان نتائج التحقيق فيه، مما يعني أن التحقيق بحسب نصرالله قد انتهى ولا ينقصه سوى الإعلان عنه! أما التساؤلات الأساسية فبقيت من دون أجوبة”.
ونعود إلى القاضي البيطار، ونسأل لماذا يستخدم “حزب الله” كل هذا التهويل عليه؟ مشكلة “الحزب” مع البيطار أنه قاض لا يخاف. عادة يعرف “الحزب” أن أي قاض يعمل في الجمهورية اللبنانية يجب أن يعرف ما يمثله “حزب الله” من قوة أمنية وعسكرية وسياسية، وعليه أن يخاف كما كان يخاف إبان الاحتلال السوري للبنان، بحيث كانت كل السلطات ترضخ لترهيب النظام السوري، علماً أن السلطة القضائية هي جزء من المشهد السياسي ولا يمكن القول إن واقع القضاء اليوم يختلف عن واقع القضاء في الأمس، ويشعر جميع اللبنانيين بوجود سلطة فوق السلطة اللبنانية، ويعلمون أن القضاء ليس جسماً منزهاً وفوق التأثيرات، وبالتالي يشعر القاضي أمام “حزب الله” أنه ليس أمام حزب عادي وإنما يخشى من رد فعل من هذا القبيل، وبالتالي تكمن هنا أهمية البيطار إذ إنه لم يتأثر بالمناخ العام الذي نشره “الحزب”.
كان “حزب الله” يتصرف بموجب مقولة “قولوا ما تشاؤون، ونفعل ما نشاء”، وهكذا شارك في حروب بعض الدول العربية كسوريا واليمن والعراق، وهيمن على قرار الدولة اللبنانية رغم كل الأصوات المعارضة، إلا في جريمة انفجار المرفأ، إذ انقلب السحر على الساحر، ويبدو أن القاضي طارق البيطار اتخذ مقولة “قولوا ما تشاؤون، وافعل ما يشاؤه القانون”.
أمام هذا الواقع المؤسف الذي يفرضه “حزب الله” والقوى المتحالفه معه، ارتفع صراخ أهالي الشهداء القضاء الممانع، للمطالبة بالقضاء الدولي، وربما كانت “القوات اللبنانية” منذ البداية الأكثر شفافية وصراحة بين القوى السياسية عندما طالبت بلجنة تقصي حقائق دولية إثر حدوث الانفجار، وطالبت بالتصويت لرفع الحصانات عن المسؤولين المتهمين للمثول إلى التحقيق، ورفضت منح الصلاحية الى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء للتحقيق في الانفجار، وكان لها الجرأة في توجيه سؤال إلى الحكومة حول تهديد وفيق صفا للقاضي البيطار، وتقدّمت باقتراح قانون يتضمن انشاء لجنة تحقيق تعاون القاضي في مهامه، ثم تقدّمت بإخبار عن جريمة انفجار المرفأ امام النيابة العامة التمييزية والمطالبة بشمول التحقيقات مقرّبين من بشار الأسد. وتوجّهت بسؤال الى وزير المال لرفضه توقيع مرسوم التشكيلات القضائية لرؤساء محاكم التمييز مما سبب تعطيل التحقيقات. وأخيراً توجّهت بعريضة الى مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة لتشكيل لجنة تقصي حقائق دولية.
ولمن يتساءل لماذا التحقيق متوقف اليوم؟ الجواب أن زعيتر وحسن خليل تقدما بدعوى مخاصمة الدولة ضد رئيس الغرفة الأولى لدى محكمة التمييز القاضي ناجي عيد الناظر بطلب رد البيطار. والدعوى الأخيرة أمام “الهيئة العامة” لمحكمة التمييز التي فقدت نصابها القانوني (٥ قضاة من أصل ١٠) بسبب إحالة أحد قضاتها إلى التقاعد، وبالتالي لا تستطيع الانعقاد إلا بموجب تعيينات قضائية شاملة لملء المواقع الشاغرة، وفقا لمرسوم حكومي يجب صدوره موقّعاً بعد إنجازه لدى مجلس القضاء، ثم توقيعه من وزيري العدل والمالية ورئيسي الحكومة والجمهورية. علماً أن مرسوم التشكيلات الذي وقعه وزير العدل هنري الخوري علّق منذ أشهر لدى وزير المالية يوسف الخليل(مقرب من حركة أمل)، ويمتنع عن توقيعه باعتبار أن التشكيلات لا تراعي التوازن الطائفي!
إذاً محكمة التمييز اليوم غير قادرة على البت بالدعاوى ضد البيطار، وأصبح الإفراج عن التحقيقات بيد الحكومة التي لا توقع التشكيلات، لذلك المعركة مستمرة وشدّ الحبال سيستمر أيضاً بين فريق الممانعين الذي يريد إغراق التحقيق بمتاهات التعطيل وحرف مسار العدالة لغاية في نفس يعقوب من جهة، وفريق أهالي الشهداء والمتضررين من الانفجار وبعض القوى السياسية التي بدأت تقتنع بإستحالة التوصّل إلى الحقيقة والعدالة في القضاء اللبناني، وضرورة الاستعانة بلجنة تقصي حقائق دولية من جهة أخرى، وهنا بيت القصيد!