إضراب القطاع العام… ماذا لو استمر؟

حجم الخط

كتب سيمون سمعان في “المسيرة” – العدد 1731

إضراب القطاع العام… ماذا لو استمر؟

سقوط الهيكل على رؤوس الجميع

يستمر إضراب موظفي القطاع العام منذ منتصف أيار الماضي من دون أن يحصل الموظفون على ما يطالبون به من حقوق، والآتي من الأيام لا يبشِّر بوافر الحلول وكثير العطاءات. ينطبق على الوضع القائم مَثَل: عين الموظفين بصيرة ويد الدولة قصيرة، بخلاف أيادٍ كثيرة ربما هي ما أوصل الوضع إلى ما هو عليه اليوم من إجحافٍ وجفاف. صحيحٌ أن هناك قاسمًا مشتركًا بين جميع الموظفين، بل اللبنانيين عمومًا، وهو تحسين ظروف العمل والمعيشة، لكن قضايا موظفي القطاع العام متشعّبة ومعقّدة وغير مفتوحة المسالك. ونظرًا إلى أن عدد العاملين في الإدارة العامة هو حوالى 320 ألف موظف ومتعاقد وأجير ومتقاعد، فإن أي صيغة لا يمكن أن تناسب الجميع. إذ قد تُشكِّل الحلول لبعض الفئات عقبات أمام حلول الآخرين، كما قد تُعطِّل مقترحات البعض لتحسين الوضع الوظيفي. مجمل هذه التعقيدات ليست فقط حائلًا دون تلبية مطالب موظفي القطاع العام، إنما الخشية من أن تُؤدي إلى نسف آخر مداميك الإدارة العامة، بل هيئة الدولة وهيبتها، وسقوط الهيكل المتداعي على رؤوس الجميع.

في الرابع من تشرين الثاني الماضي 2021 أعلنت الهيئة الإدارية لرابطة موظفي الإدارة العامة الإضراب المفتوح، بعد أن كانت التزمت الإضراب التحذيري ليومين. وقالت في بيان «إن تحرّك الموظفين سيكون تصاعديًا بعد أن فقدت رواتبهم 95 في المئة من قدرتها الشرائية، وبات محظورًا على عائلاتهم حتى الحلم بالحد الأدنى من مقومات الحياة، الغذاء، الماء، الكهرباء، التعليم، الطبابة والإستشفاء، وحتى الدواء». ومن يومها استمر التحرّك ولو متقطعًا. كان يخفت حينًا بعد منح بعض التقديمات أو الوعود، ثم يتأجج بعد النكث بها، أو تسارع وتيرة التردي المعيشي والإنهيار الإقتصادي.

وفي أيار الماضي عادت الرابطة إلى الإضراب المفتوح، لكن المتغيّر في الجولة الجديدة أن من يتوجّه إليها الموظفون بالمطالب هي حكومة تصريف أعمال محدودة القدرة على الحركة كما على التنفيذ. والمتغيّر الآخر هو دخول وزارات وإدارات جديدة إلى حيّز الإضراب ممن لم يُضربوا قبلًا كموظفي الصرفيات في وزارة المال والمحررين والفنيين والمندوبين في الوكالة الوطنية للإعلام والإذاعة اللبنانية. ويرى البعض أنه بحسب الجو السائد والمنحى الإنحداري لأداء السلطات المعنية، فإن إدارات أخرى أكثر حساسية ستدخل الإضراب ما يُنذر بتفكّكٍ وتحلّلٍ لم تشهد الدولة اللبنانية لهما مثيلًا حتى في عزّ الحرب الأهلية!

 

ضيق وتمييز فجّرا التحرّك

حاولت حكومة الرئيس ميقاتي تأمين بعض المطالب والإلتفاف على بعضها الآخر وتجاهل الكثير المتبقّي، إدراكًا منها ألّا إمكانية لتحقيقها برمّتها. كأنها اعتمدت معادلة «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم»، مع علمها اليقين بأن الديب في حال نزاع والغنم في حال ضياع، والمزرعة، تلك التي تديرها عينها، ما عادت تحتاج من مسببات الإنهيار ولا حتى واحدة. فرَفْع بدلات النقل من 6 آلاف ليرة إلى 28 ألفا ثم إلى 64 ثم إلى 95، بقي عمليًا غير ذي قيمة لأنه لا يُدفع أصلا للكثير من الإدارات. والمساعدة الإجتماعية التي صدرت بمرسوم مُطرّز بالتمنين لا تُدفع بانتظام عدا عن كونها لم تعد تساوي الكثير الذي يمكن التعويل عليه للعودة عن الإضراب.

كل ذلك، استمر محط تجاذب وتداول، إلى أن تم إقرار رفع مرتّبات القضاة بنسبة 5 أضعاف بعد احتسابها على سعر 8000 آلاف ليرة للدولار، وليس 1500 كما هو حال سائر الموظفين، مما أجّج حالة التحرّك في القطاع العام ودفع من كانوا لا يزالون يحضرون إلى أعمالهم، إلى الإنضمام للتحرك الرافض لما بلغه وضعهم الوظيفي. وتداعت فئات أخرى منها المساعدون القضائيون وأساتذة الجامعة اللبنانية والمتقاعدون العسكريون وغيرهم، للمطالبة بمساواتهم مع القضاة، علاوة على ما كانوا قد رفعوه من مطالب.

فقضية التمييز بين رواتب موظفي القطاع العام لجهة الزيادات المحقّة، تفاعلت بعد الخطوة التي اعتُمدت لتحسين معاشات القضاة، «مما يؤسّس لأزمات غير قابلة للمعالجة»، كما أفاد «المسيرة» مصدر رسمي رفيع. المهم في الأمر ليس الجانب المادي على أحقّيته، بل ما أشار إليه مرجع قانوني اعتبر «أنّ تدبير مصرف لبنان المتضمّن صرف رواتب القضاة بعد إجراء هندسة مالية تقضي باحتسابها على سعر 8000 ليرة، سيفضي إلى خلق سبب ارتياب مشروع جماعي بكل دعوى أو إجراء قضائي يكون أحد طرفيه أي جهة مصرفية أو نقدية، وهو يؤدي إلى وقف كل الإجراءات القضائية في حق المصارف ومصرف لبنان.» وهناك العديد من الجهات السياسية، النيابية تحديدًا، رأت «أن تخصيص القضاة من دون سواهم بهذه الزيادة، وإن كانت مُحقّة، يُعتبَر رشوة لهم وإلا لماذا لم يسرِ الأمر نفسه على أساتذة الجامعة اللبنانية مثلًا، وبينهم قضاة تركوا السلك وانصرفوا إلى التعليم الجامعي؟ ويعلم الجميع مدى معاناة اساتذة اللبنانية وصرخاتهم المتتالية لإنصافهم إحقاقًا لحقهم من جهة، وحفاظًا على الجامعة ومستواها الأكاديمي من جهة ثانية. والأهم الإحتفاظ بدكاترتها والحد من النزف إلى الخارج ما يكاد يُفرغها من الكفاءات». ويقص المرجع نفسه ما اعتمدته ألمانيا التي تعلو فيها مرتبات الأساتذة والمعلمّين على مرتبات القضاة والأطباء والمهندسين والسياسيين وسواهم… والسبب أن دولة المانيا تعتبر أن المعلم الجيّد والمكتفي يخرّج أجيالًا من القضاة والأطباء والمهندسين والسياسيين الصالحين، فتصطلح البلاد.

من جهة ثانية، فإن التدبير الذي اتخذه مصرف لبنان بما يخص رواتب القضاة، والذي بات نافذًا ولو جزئيًا بدءًا من السادس من تموز الحالي، رفع مستوى الاعتراض عند موظفي الإدارات العامة على رغم تأكيدات قضائية بأن هذا التدبير يسعى لإعادة الانتظام لعمل المحاكم وتأمين سير المرفق القضائي. وفي حين كانت المفاوضات غير السالكة مع رابطة موظفي الإدارة العامة تكاد تتوصل إلى اتفاق على بعض ما يمكن توفيره من عطاءات، فإن ذلك بات غير ممكن بعد رفع رواتب القضاة، إذ بات مطلب الجميع المساواة ورفض القبول بما هو دون هذا السقف، وإلا استمرار الإضراب المفتوح. وإذا كان تبرير تمييز القضاة هو تأمين سير العدالة وتسهيل أمور المتقاضين، فإن استمرار إضراب المساعدين القضائيين ودعوتهم إلى تصعيد التحركات وإقفال قصور العدل في كل لبنان حتى نيلهم مطالبهم، أسقط هذه الحجة وأبقى القوس خاليًا من مُعتَليه.

 

كرة ثلج أم كرة نار؟

يؤكد مرجع حكومي بأن ما أعطي للقضاة سيسري بطريقة أو بأخرى على موظفي الإدارة العامة كافة، ولكن بعد إقرار قانون الموازنة العامة في المجلس النيابي في النصف الأول من آب المقبل. ويَعتبر أن هذا الإجراء الذي ستطرأ عليه بعض التعديلات بما يتوافق مع إمكانيات الدولة من جهة وضرورة تسيير المرفق العام من جهة ثانية، هو قرار لا بد منه، مذكّرًا بأن سلسلة الرتب والرواتب التي أُقرّت في العام 2017 بدأت من القضاة، ثم تلاها أساتذة الجامعات، قبل أن تتوسع لتشمل جميع موظفي الإدارات العامة. ولفت إلى أن القرار المتخذ لناحية تصحيح رواتب القضاة، ليس قانوناً ولا يُعدّ زيادة للراتب، بل هو بمثابة منحة، تمّت بموجب اتفاق بين المصارف ومصرف لبنان، من غير تعديل في أصل الراتب الذي يحتاج إلى قانون يصدر عن مجلس النواب.

لكن رابطة موظفي الإدارة العامة تردّ على ذلك بالقول: «بما أن وزارة المال تؤكد أنها لا تصرف للقضاة أكثر من قيمة الرواتب الأصلية، بل إن المصرف المركزي هو من أوعز للبنوك بصرف الرواتب على سعر 8 آلاف ليرة، على أن يتكفّل هو بتغطية تلك الزيادات والفوارق بين ما تصرفه وزارة المال وما يتقاضاه القضاة، فأن مسالة الإرتياب تكون واقعة في مكانها الصحيح، وإلا فليطبَّق المبدأ نفسه على سائر مرافق القطاع العام.

وبناء عليه كان اللقاء الذي جمع مؤخرًا روابط القطاع العام أكثر تشدّدًا لناحية المطالب. وقد خرج المجتمعون بموقف مُوحّد لجهة «وضع خطة تصعيديّة في مواجهة ممارسات السلطة التي بدأت التعامل مع القطاع العام وفق القطعة». إلّا أنّهم رفضوا المطالبة بوقف تنفيذ زيادة رواتب القضاة باعتبارها حقًّا لهم، داعين إلى تعميمها على جميع موظفي القطاع العام.

تدحرج كرة الثلج أو كرة النار هذه، صار أكثر تسارعًا بعدما بات الوضع المعيشي للموظفين واللوجستي للإدارات أكثر ضيقا. فـ»الوكالة الوطنية للإعلام» التي لم تتوقف يومًا منذ انطلاقها في الخمسينات، حتى في زمن الحرب اللبنانية والإجتياح الإسرائيلي لبيروت وانفجار المرفأ الذي دمّر واجهاتها ومكاتبها، وفترة الحجر بسبب الإنتشار الواسع لفيروس كورونا، توقفت عن العمل ليومين كإضراب تحذيري في 14 و15 تموز الحالي، ثم إلى الإضراب المفتوح بسبب عدم قدرة الموظفين على الحضور إلى مكاتبهم أكثر منه كموقف ضاغط للمطالبة بتحقيق المطالب.

لكن هذا التوجه خلق شرخًا بين الموظفين، بين أغلبية مؤيدة للإضراب وأقلية فضّلت الإلتزام بتوجيهات بعض المسؤولين في الوزارة ممن يفضّلون ألا تلتحق وزارة الإعلام بسواها من الإدارات العامة لناحية الإضراب المفتوح. أما ما تم وعْد الموظفين به بعد لقاء بالرئيس نجيب ميقاتي ضم وزير الإعلام زياد المكاري ومدير عام الوزارة ومدراء الوكالة الوطنية للإعلام والإذاعة اللبنانية والدراسات، فاقتصر على توفير بدل 6 ليترات بنزين عن كل يوم حضور إلى العمل ووعْد بتحسين المداخيل بعلاوات على الراتب من غير إدخالها في صلبه، لكن الوعد مؤجل التنفيذ ومرهون بموافقة الهيئة العامة لمجلس النواب عليه ليصبح ساريا ودون ذلك الكثير من المحاذير والعقبات.

 

هل من يريد دولة؟

يرى مرجع متابع لكل ما يجري في القطاع العام، أن المسالة أبعد من مطالبة برفع الأجور وتلبيتها أو التفاوض حولها، وأعمق من اقتصارها على ما تنطوي عليه إرادات المسؤولين. ويتوقف في هذا السياق عند نقاط بارزة أهمها:

لا تستطيع حكومة تصريف أعمال وسط الأزمتين الإقتصادية والسياسية في البلد أن تلبّي المطالب المرفوعة للموظفين ولا حتى قسطًا يسيرًا منها لأنها من غير موارد ذاتية منذ ثلاث سنوات، والإستدانة التي كانت معتمدة سابقًا لم تعد متاحة اليوم، فمن أين ستأتي بتغطية هذه الزيادة الكبيرة في الإنفاق؟

شبح سلسلة الرتب والرواتب ما زال ماثلًا، وثمّة من يحمّلها مسؤولية أو جزءًا من مسؤولية الإنهيار الإقتصادي اللاحق. إذ إن السلطة أقَرَّت زيادات للقطاع العام من غير أن تنجح في تأمين الموارد الموعدة لتغطيتها. والزيادة اليوم أكبر ومفاعيل إقرارها أسوأ.

إذا لم تتأمّن الموارد، ولا ما يشير إلى أن هناك إمكانية لتأمينها وتم إعطاء علاوات لإرضاء الموظفين ووقف الإضراب، فإن ذلك سيعتمد على مزيد من طبع العملة أي التضخّم، ما يدفع الدولار إلى مستويات قاتلة ويجعل قيمة الزيادات تتآكل قبل أن تدخل الرواتب جيوب الموظفين.

هل تستطيع الحكومة الميقاتية غير الكاملة الصلاحية تحمّل هكذا قرار؟ وهل يُقدم عليه رئيس الحكومة وهو الداري بنتائجه؟ وكيف سيواجه صندوق النقد الدولي الذي يشترط خفض بند الرواتب والأجور في الموازنة من ضمن الإصلاحات المطلوبة لمساعدة لبنان؟

وأخيرا هل من يتحمّل بقاء الإدارة العامة في شلل إداري بنتيجة الإضراب المفتوح بعدما عرفت أفظع أنواع الشلل الإنتاجي والهدر والفساد؟

ويتابع المصدر نفسه مؤكدًا ألّا إمكانية للموظفين للحضور إلى مكاتبهم وتأمين مصالح المواطنين بالشروط المتوفرة حاليًا، وهي لا تقتصر على الأجور فقط بل على حال الإدارات وتوفّر الكهرباء والقرطاسية وما سوى ذلك. ولا إمكانية لدى الحكومة لتلبية المطالب وسط الإنهيار الكبير الحاصل، وهنا مكمن الأزمة. لكن الأهم، يشير المصدر، ألّا نية لدى من بيده القرار لبناء المؤسسات والحفاظ عليها منيعة، بل أكثر من ذلك، كأن هناك من يدفع عمدًا إلى هذه الفوضى الهدامة. فمن لم يُضرِب لمطالب معيشية، كموظفي مصرف لبنان، يدفع إلى ذلك بغير حجّة وسبب. وثمّة ريبة في ما إذا كان بعض المرجعيات يريد دولة فعلًا أم أنقاض دولة يبني عليها مشروعه المستحيل في زمن التحولات الغامضة!

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل