إنّ هذا الزَّمنَ ” المَيمونَ ” الذي باتَتِ الأَعوامُ السّودُ منارةً، بالمقارنةِ معه، يُصَنَّفُ، وعن جدارة، مَرجعاً في صياغةِ مقاماتِ العَيب، فلا يمكنُ للتاريخِ نسيانُهُ أو التّقصيرُ في الإشارةِ الى ” فوائدِ ” أركانِهِ، التي يُغنَمُ منها بضاعةٌ لم يُدَوَّنْ مثيلٌ لها في عِلمِ الفساد، وفنِّ النّهب، وصناعةِ العَمالة، ونَوازِعِ قَهرِ النّاس، واستساغةِ الانحطاط الأخلاقيِّ، وأساليبِ طَعْنِ الوطن.
إنّ المُهتَمَّ بِطُرُقِ رَفعِ بناءِ الخيانةِ، لن يفوتَهُ مشهدُ أربابِ الحكمِ يحملون، على أكتافِهم، أحجارَ أساسِه. والذي يتوقُ الى تَرَقُّبِ مأثرةِ عافيةِ البلاد، سوف يقعُ على ما يسوقُهُ السلطَوِيّون من قطراتِ السُمِّ لتذهبَ الصحّةُ عنِ الوطن. لذلك، كان، من البديهيِّ، أن ” يُشكَرَ ” المُتَوَلّون نِعمةَ لبنان، على إشرافِهمِ، وبِأحسنِ حال، على تدميرِ الكيانِ، وتمزيقِ الهويّة، وتسطيرِ أَبشَعِ صفحاتِ التبعيّةِ لطارئينَ نكّلوا بسيادةِ البلدِ، ولوَّثوا كرامتَه.
في عصرِ القوّةِ و” الفُتُوّة “، الكَلِفِ بتضييعِ خَواصِ لبنانَ الحضاريّةِ، في الاجتماع، والنّظامِ السياسيّ، والطلَّةِ على العالَمِ الرّاقي، لسنا نتكلَّفُ، في قَصدِنا، سَوقَ اتّهاماتٍ واهيةٍ للذين نكبوا البلادَ، أو استقدامَ أسوإِ هيئةٍ لهم، فهؤلاءِ العابِثونَ بسلامةِ الأرض، والذين أَلِفوا التّلفيقات، وصَحَّرَت هفواتُهم خصوبةَ آمالِ الأجيال، لن يَسلموا مِنْ عدالةٍ بَصيرةٍ بأبناءِ الذّنوب، وأولادِ الدّروب، الذين أَفقروا الناسَ افتقارَ الجسدِ الى الحياة، وجعلوا مواردَهم قَحطاً، فلم يعُدْ من منابرَ لِجَمرِ يأسِهم إلّا الدّموع.
إنّ مَنْ يكمدونَ بالحسرةِ في أيّامِ جهنّم، والذين تستعرُ صدورُهم بالغَيظ، لن تَميدَ أرضُهم بالخوف، ولن يحطّوا رحلَهم عندَ قارعةِ الإحباط، فطبيعتُهم السخيّةُ في الوطنيّةِ، ومجاهدتُهم في الدّفاعِ عن وجودِهم الحُرِّ في وطنٍ عزيز، مهما زادَتِ المَكاره، ومهما تحلَّقَت حولَهم الشدائد، هما مَؤونةُ كرامتِهم، هذه التي يُؤتى ثَمَرُها، بثَباتِها، من حيثُ لا يَرتقِبُ الذين يحسبونَ أنّ إمساكَهم بالبلادِ، وبالعِباد، مُحكَمٌ من غيرِ كِلفةٍ أو عَناء. فالكرامةُ، وحدَها، هي الحُسامُ الصَّقيلُ الذي يَحدثُ له، عندَ وقوعِ الشّمسِ عليه، انبعاثُ شُعاعٍ منه يُبَدِّدُ غياهبَ الأمكنةِ المظلمة.
إنّ الوُلاةَ، في لبنانَ، الذين استكثروا من إتيانِ القبائح، لاشتدادِ اختصاصِهم بالأذيّةِ، والجَورِ، والإجرامِ، والعُدوانِ، فابتُلِيَ بهم لبنان، لم يزجروا أنفسَهم، حتى السّاعة، عن متابعةِ الشَرّ، وإنزالِ الكوارثِ بالنّاس، وإفسادِ عيشِهم، وتَحويلِ حياتِهم مواسمَ أَلغام. فهؤلاءِ المُتَرَبِّعونَ على عُنقِ البلاد، والذين نَضَحَ من جُثَثِهم المهترِئةِ المَكرُ، والخيانةُ، ولم يُؤثِروا، في ذواتِهمِ الصَّدِئة، إلّا وِفادةَ المُنكَرِ، والإِثمِ، ولم تَحُطَّ في وَحلِ نفوسِهم سوى الفحشاءِ، لن تكونَ حُظوظُهم من عقابِ الوطن، إلّا بمِقدارِ ما نَهَبوا، وظَلَموا، وأَفقَروا، وافتَرَوا، وعزَّزوا خيانتَهم بجَبَروتٍ مَشبوهٍ حَرَمَ النّاسَ هناءَهم، والبلدَ سيادتَه. وهؤلاءِ الذين كانَ معدنَهُم الخُبثُ، والخِسَّةُ، والغَدرُ بالوطن، لا كتابَ توبةٍ يَحولُ دونَ إلقائِهِم في جحيمِ الشّياطين.
أمّا السّيادةُ التي جعلَ الدَّهائيّونَ وجهَها مُغبَرّاً، فَقَدْ فَقَدَت بشاشتَها بِما ابتُلِيَت بهِ من زَيَفٍ، و” تَسَلطُنٍ ” ردَّها الى عهدِ الجَواري، وعَفَّنَها في تنكيلٍ إقطاعيٍّ مُتَزَمِّت، وحفرَ في خَدِّها أَثلاماً من العار. فكيفَ للسّيادةِ مُدمِنَةِ الكِبَرِ، وعَمودِ الدولةِ، ومُرتَكَزِ الوطنِ المَتين، أن تُغَمِّسَ نزواتُ الموتورينَ، جَبينَها في كَومةِ الأَرجُل، بدلاً من توفيرِ حمايةٍ لها، لأنّ وجودَ البلادِ مَرهونٌ بوجودِها، وكذلك كرامتُها.
لقد خَلا تاريخُ لبنانَ، في هذا الزّمنِ الذي مَدمَكَهُ الفساد، إلّا من تشييدِ مَفاخِرَ معدومةِ القيمة، وحَوكِ مَآثِرَ خاليةٍ من الفائدة، ونَسجِ أحوالٍ إستقامَ فيها الإسفاف، ونَثرِ كلامٍ زَهُدَت في مضامينِهِ الإشارةُ الى السّيادةِ، والى الوطنيّةِ، انتماءً وولاءً. وحَسبُ الأواتي من الأيّام، إذا شُغِلَت بتصنيفِ ما أنتجَه أصحابُ الأَلقاب، من ضراوةٍ، وعنفٍ، وتَقويمِ سلطانِ الشَرِّ على الحقّ، ألّا تُخادِعَ قناعتَها، وألّا تَغضَّ الطَّرفَ عن استثقالِ سلوكِ أركانِ الضّلالِ الذين أورَثونا آلاماً أَقسى من الموت، وتَهزأَ، بالتالي، من وَشوَشَةٍ غبيّةٍ كانت تَعِدُ واحدَهم بِ ” تأبيدِه “.
وبعد، إذا كانتِ السّيادةُ خُبزاً يُشبِعُ جوعَ الوطنِ الى الكرامة، فإنّ مسؤولينا لم يَبرَعوا إلّا في مُصادرةِ القمح.