كل من شاهد قداس شهداء المقاومة اللبنانية في معراب واستمع إلى كلمة رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، أدرك أن المناسبة ستكون حدثاً نارياً، لا نقصد القداس بحد ذاته وما يرافقه من طقوس، ربما هذه التفاصيل لا تتغيّر، بدءاً من المكان وتجهيزه بكل ما يلزم لإعطاء المناسبة حقها، مروراً بالعرض الكشفي “العسكري” وحشد الرهبان والاكليروس، والخلفية البانورامية التي ترمز بصورها إلى جذور المقاومة وشهدائها، والانتماء المسيحي الكنسي الوجودي وصولاً إلى كلمة جعجع التي تكون دائماً كثيفة المعنى، واضحة وصريحة، وتحدد بوصلة المسار السياسي لـ”القوات”.
أما الحدث الناري هذه السنة فتجلى في أمرين أساسيين لا بد من التوقّف عندهما:
الأول، قد يُعتبر شكلياً ويتعلّق بنوعية القوى السياسية التي حضرت القداس وهي تشكّل رسالة بحد ذاتها، والأهم فيها هو التمثيل الكتائبي الذي شمل النائبين نديم بشير الجميل وسليم الصايغ، وهذا الحضور الكتائبي جاء بعد قطيعة دامت فترة طويلة، بدت فيها العلاقة بين الحزبين الشقيقين ملتبسة، إلا أنها شهدت بعد الانتخابات النيابية انفراجاً ملحوظاً، بل عادت المياه إلى مجاريها بعد حوار جرى بين جورج عدوان وسليم الصايغ.
والحضور ذات الدلالات السياسية العميقة تمثّل باعضاء كتلة “التجدد” النائبين اشرف ريفي وفؤاد مخزومي وتمثيلهما السنّي المنسجم مع طروحات “القوات”، والنائبين ميشال معوض ونعمة افرام اللذين يطرح اسمهما لرئاسة الجمهورية. صحيح أن جعجع مرشح طبيعي وقوي للرئاسة، لكن حضور معوض وافرام رسالة رئاسية بحد ذاتها، وتؤكد ان القوات منفتحة على خيارات رئاسية أخرى من مكوّنات المعارضة، شرط أن تكون غير بعيدة عن ثوابتها السيادية.
الثاني، برز في كلمة جعجع حنين طبيعي للشهداء، فالمناسبة مخصصة لهم، وهذا ليس بجديد، فجعجع والقوات وفيان للشهداء، وهذا القداس وما يرافقه يُعتبر ذروة نشاطات “القوات” وأكثرها أهمية.
المحطة الأولى في الكلمة كانت حنين خاصاً لمؤسس “القوات” بشير الجميل الذي ذكره جعجع مرات عدة في الكلمة، وربما تنظيم القداس في ايلول عشية الاستحقاق الرئاسي فرض نفسه، وبالتالي لا يمكن لجعجع إلا أن يعود في كلمته إلى الرئيس “الحلم” لأكثرية اللبنانيين، فهو لا يغيب عن البال كرئيس قوي يتمتع بالهيبة، صنع المعجزة في 20 يوماً لم يستلم فيها الرئاسة إنما شكّل ظاهرة توحيدية في عزّ الحرب والاقتتال قبل أن تمتد ايادي الاحتلال السوري الخبيثة لإغتياله!
المحطة الثانية في الكلمة كانت انقضاض جعجع على “التيار الوطني الحر” وعهد ميشال عون، وهو أطلق على هذا العهد الرصاصة الأخيرة، وكما أدخله إلى القصر من معراب فقد أخرج منه في كلمة صارخة ونارية في معراب أيضاً. لم يترك جعجع أي ستر يختبئ خلفه هذا “التيار”، بل عراه وفضح خططه وتوجهاته السياسية كالتعطيل بهدف التوريث، وعاد به إلى ما ارتكبه في الثمانينات بحق اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً، ثم انتقل إلى الويلات التي حلّت بلبنان منذ بدايته عهده عام 2016. ومن البديهي أن يكون لـ”التيار” ردّ فعل صاخب على كلمة جعجع، علماً أن باسيل سيعقد مؤتمراً صحافياً الثلاثاء المقبل، لكن مهما حاول الدفاع عن نفسه، لن يتمكن من الوصول إلى المستوى الذي وصل اليه جعجع في تصعيده وخصوصاً انه استبق ما قد يقوله باسيل بترويج “التيار” للأكاذيب من زمن الحرب كالنفايات السامة والمقابر الجماعية في حالات، وهما كذبتان غالباً ما يستثمر فيهما “التيار”. وانقض جعجع على العهد ورئيسه ميشال عون معتبراً أنه سيخرج من القصر والتاريخ ووصفه بأضعف رئيس وهذا وصف غير مسبوق بجرأته، علماً أن هذا الكلام يعبّر عن وجدان أكثرية اللبنانيين الذين ضاقوا ذرعاً بهذا العهد المدمّر الذي رهن نفسه للهيمنة الايرانية، وبالتالي لن يذكره التاريخ إلا في هذا السياق.
المحطة الثالثة، كانت مقارنة بين لبنان “حزب الله” ولبنان “القوات”، وهذه بلا أدنى شك مقارنة جريئة في مناسبة وجدانية سياسية، وكشف عورات ما يسمى “المقاومة” ودجلها والأضرار التي الحقتها بالشعب اللبناني من فقر وعوز وغياب لأدنى مقوّمات العيش وتعريض لبنان للعزلة ومصادرة قرار الدولة اللبنانية.
قد لا يكون كلام جعجع جديداً، إلا أنه رفع مستوى التحدي، وكشف كل عورات “الحزب” مسمياً الأمور باسمائها كما كان يفعل “بشير”، وإن على طريقته الخاصة. وكلمة حق تقال أن رئيس القوات “فشّ خلق” اللبنانيين برفضه تحوير التاريخ وتغيير نمط حياة الشعب اللبناني من قبل “حزب الله” الغارق في مشروع لا علاقة للبنان التاريخ والحضارة به.
المحطة الرابعة والأخيرة، وهي الأهم، وضع جعجع سقفاً رئاسياً عالياً في المعركة الدائرة، وكان لا بد من أن يفعل ذلك، لإرساء نوع من توازن رعب سياسي في مواجهة “الحزب”، فهو طالب بـ”بشير” جديد في قصر بعبدا “لأن ما بتلبق لغيرو”، وهذا ما يحلم به القواتيون واللبنانيون عموماً. منطقياً، قد يعتبر “حزب الله” ان جعجع يحلم، لكن في الأرقام يعلم “الحزب” انه إذا تكتلت قوى المعارضة واتفقت على اسم واحد لخوض المعركة الرئاسية يمكنها أن تحرر قصر بعبدا من “الممانعة”، وهنا أهمية كلام جعجع الذي أبدى انفتاحاً على كل قوى المعارضة وأبدى استعداده للاتفاق في ما بينها والامتناع عن “خيانة الأمانة”، وقد يكون كلام جعجع في هذا السياق موجهاً للحلفاء أكثر من الخصوم، والرسالة وصلت حتماً.
كل ما ذكره جعجع عن مواصفات الرئيس العتيد أي رئيس يمثّل الشرعية فعلاً، وغير خاضع لدولة خارجية، يدافع عن السيادة ويستعيد الكرامة والقرار الاستراتيجي للدولة ويقوم بالإصلاح ولا يكتفي بالتفرّج على الفساد، تنطبق عليه، فهو الأكثر قدرة على تحقيق هذه الأهداف، لكن هو يعرف جيداً أن ظروف وصوله إلى الرئاسة قد لا تكون متوفرة، وبالتالي رفع سقف مطالبه الرئاسية، للإتيان على الأقل، برئيس يملك الحدّ الأدنى من هذه المواصفات.
لا يمكن انتقاد جعجع بأنه أهمل الطريقة للوصول إلى مثل هذا الرئيس، فقد قلّل من شأن التدخلات الخارجية وأعطى الثقة لنواب البرلمان، ولا سيما نواب المعارضة بتحقيق الانجاز.
إذا لا صوت يعلو فوق صوت المعركة الرئاسية التي أطلقها جعجع بقوة من معراب في هذه المناسبة الجليلة، وقد يكون ما بعد قداس معراب غير ما قبله، وربما نشهد تصعيداً من “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” في المقابل، إلا أن الأنظار ستتجه نحو مبادرة النواب التغييريين الذين تابعوا بديهياً كلمة جعجع، فهل سيلاقونه في منتصف الطريق، ويلتقون معه للبحث في مبادرتهم. العقل والمنطق يقول ان “التغييريين” لا يمكنهم تجاوز ما حصل في معراب اليوم، مما سيخلق ديناميكية في الملف الرئاسي في الأيام المقبلة.