“الديمقراطية – التوافقية”: نعمة أم نقمة؟

حجم الخط

لا يختلف إثنان على أنّ التركيبة الاجتماعية والسياسية في لبنان فريدة ومعقّدة للغاية، لدرجة تجعل من ايجاد صيغة واضحة للحُكمِ فيه مهمّةً صعبةً جدًّا، هذا إن لم نقل مستحيلة. فتاريخ لبنان حافل بالمحطات التي توقفت عندها عجلة الحياة الدستورية عن الدوران، لأن الدستور روحٌ بحاجة الى جسم اجتماعي وسياسي متين ليطبّقه ويطوّره, ليضع أولويّته بناء الدولة والوطن، قبل صون امتيازات الجماعات والطوائف.

وفي الواقع، لبنان مزيج من جماعات مذهبية تعيش هاجس الوجود؛ فهي، في معظمها، عانت من الاضطهاد عبر العصور، واعتادت على النضال من أجل البقاء والحفاظ على إرثها وهوّيتها، المهددين دومًا بخطر الذوبان في المحيط الجغرافيّ والاجتماعي والسياسيّ المجاور.

انطلاقًا من هذه المقدّمة، نشأت الدولة اللبنانية، مرتكزةً على مبادئ تراعي خصوصيّة الطوائف وامتيازاتها، في ظلّ روحٍ توافقية استثنائية وظرفيّة، لم تحسب حساب المتغيرات السياسية والاقتصادية والديموغرافية، ولا حتى تقلبات المنطقة، فابتدأ الجسم اللبناني بالتصدّع، إلى أن انفجر كلّ شيء عام 1975.

لكن، وعلى الرغم من الروح الطائفية التي طغت على الحياة السياسية في لبنان، والتي حالت دون ارتقاء المجتمع اللبناني من حالة التعايش الى مرحلة المواطنة، وعلى الرغم من الثورات والحوادث والحروب التي ساهمت المذهبية في تأجيجها، لا يمكننا إغفال حقيقة ناصعة، هي أن التوافق بين المكوّنات الطائفية اللبنانية، في ظروفٍ معيّنة وحول مبادئ معيّنة، كتبت صفحات عزّ في سجلّات التاريخ، نازل لبنان فيها الكبار، وغلبهم.

فالتوافق حول الحريّة والاستقلال ورفض الحماية الأجنبية، أنتج شراكة وطنيّة مكّنت الوطن الصغير من التملّص من شبح الوحدة مع سوريا في مطلع القرن الماضي، ثمّ منحته استقلاله الأول عن فرنسا، واستقلاله الثاني عن سوريا. لكن، وإن كان التوافق عامل قوّة استفاد منه لبنان ليولد ويستقلّ، فهو في بعض الأحيان، ظرفيّ قد لا تتوفر له عناصر النجاح في جميع المراحل والمحطّات، خصوصًا مع التركيبة اللبنانية المتنوّعة والمعقّدة، والتأثير المباشر للمحيط العربي والإقليمي عليها.

فهل يعني عدم التوافق تعطيل المؤسسات وتفكيك الدولة؟ ولماذا لم تنجح تجربة الدمقراطية التوافقية في لبنان حتى الآن؟

يعرّف الاستاذ أنطوان نجم الديمقراطية التوافقية بأنّها ديمقراطية تقوم على “بناء الدولة من خلال عقود منفتحة على التطور، وسلطة ذات ائتلاف واسع، واستقلال ذاتي في نواح ذات صلة عضوية بخصوصيات وجودية واقتناعات ايمانية ونظام حصص في التمثيل الشعبي وحق نقض متبادل. وهي تجسيد لحق التميّز من غير التضحية بمبدأ وحدة الدولة”.

ويشرح الأب جان دوكرويه مضمون الديمقراطية التوافقية بأنّها “تمتين للوحدة الوطنية عبر نظام سياسي يشرك كل الطوائف باتخاذ القرارات الوطنية، بحيث لا تفرض أيّ طائفة على الأمّة ما لا يتناسب ولا يتلاءم وتقاليد الطوائف الاخرى”.

ويضيف الأب دوكرويه بأنّ الديمقراطية التوافقية تفترض “حكومة ذات ائتلاف عريض وفيتو متبادل حيال القرارات التي تتناقض مع المصالح الحيوية لإحدى الجماعات، ونسبية إجمالية في توزيع الوظائف لئلا تهيمن واحدة من الجماعات على مناصب المسؤولية باسم القوة أو العدد… ”

من حيث المبدأ، فإنّ الديمقراطية التوافقية هي النظام الأنسب، والأصلح، والأفضل لوطن تعددي مثل لبنان. ولكنّها، وعلى الرغم من مثاليّتها، لم تنجح فيه حتى يومنا، لأن “الديمقراطية بحاجة الى ديمقراطيين”، لا الى ديماغوجيين.

فالشراكة الوطنية فسّرها هواة السياسة على أنها نظام محاصصة، محصور بهم وبمن يدينون لهم بالولاء.

فأين مصلحة الطائفة وحماية حقوقها من احتكار فريق سياسي دون سواه، كل حصص أبنائها في الوظائف؟

أين حق الشراكة في اتخاذ القرارات الوطنية، عندما يتفرّد حزب الله في قرار الحرب والسلم، ويقرر وحيدًا، إقحام لبنان في صراعات لا مصلحة له فيها، مع محيطه العربي؟

أين احترام خصوصية الجماعات عندما يهيمن فريق مسلّح على القرار الأمني والسياسي والاستراتيجي في البلاد بالقوّة والترهيب؟

أين حقّ التميّز عندما تُنعت فتيات بعض المناطق اللبنانية بأقبح النعوت، لمجرّد اختلاف عاداتها وتقاليدها؟

أين حقّ النقض حين يُتّهم كل معارضٍ لحزب الله بالخيانة والعمالة لإسرائيل؟

أين سيادة الدولة والقانون عندما يُهدّد قاضي التحقيق عن الانفجار الذي دمّر العاصمة؟

قبل الشروع بالحكم على النظام، لا بدّ من معرفة اسباب فشله، ومعالجتها. وحزب الله أساس كل هذه المشاكل. فهو، منذ نشأته، لم يقبل بلبنان وطنًا ولا شراكةً ولا ولا كيانًا. وهو، بدون أدنى شكّ، المسؤول المباشر عن التدمير الممنهج للدولة اللبنانية.

الفساد يرعاه هو مقابل التغطية عن سلاحه وهيمنته على القرار الاستراتيجي. والعزلة الدولية والاقليمية التي وصل اليها لبنان مسؤول عنها هو بسبب سياساته الخارجية وتدخلاته في المنطقة. وافقار لبنان مسؤول عنه هو بسبب التدمير الممنهج للقطاع المصرفي والتهريب الذي يرعاه عبر حدود ومعابر غير شرعية يسيطر عليها. فأيّ دولة نبني، وأيّ دستور نطبّق، في ظلّ هيمنة السلاح؟

ختامًا، وخلافًا لما يعتقد البعض ممن يحلو لهم الترويج بأنّ لبنان وطنٌ مفعول به، ينتظر مصيره من دوائر القرار في الخارج، فالحلّ لهيمنة حزب الله يبدأ في الداخل، عبر تكاتف وطني شبيه بثورة 14 آذار، يشمل كل الجماعات التي تضرّرت بسبب سيطرته على مفاصل الدولة، وعلى رأسها الطائفة الشيعية. فقبل إطلاق الأحكام على الدستور، لا بدّ من تطبيقه اولا، في ظلّ دولة سيدة حرة ومستقلة. عندها فقط يمكن معرفة اذا كانت الديمقراطية التوافقية نعمةً فنعيش في كنفها، او نقمة فنعيد صياغة نظام جديد.​

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل