كتبت نجاح بو منصف في “المسيرة” – العدد 1732
أهراءات المرفأ… كان يا ما كان
4 آب 2020… خلصت الحكاية!
في بئس الأيام.. في بئس العهود، نلجأ الى ذكرياتنا، الى حكايات عزّ لبنان وعهوده، حكايات وحكايات صارت لنا ملاذاً وحنيناً، نهرب إليها نستعيد ما كان للبناننا، يوم كان جوهرة هذا الشرق وسويسراه، قبل أن يخسر كل ما كان، ومما كان له، ذاك المرفأ وتلك الأهراءات.. وكان يا ما كان!
نعم، من رحم ميناء مدينتنا الصبية الباهرة شاغلة الدنيا آنذاك عزًا وازدهارًا وتألقاً، وفي حرمه ولدت تلك الأهراءات الشامخة التي صارت عروس ذاك المرفأ وواجهة بيروت السياحية المتغاوية ألقاً وسحرًا، وتُحفةً معمارية كرّستها أحد أهم المنشآت الهندسية في القرن الماضي، قبل أن يحوّلها ذاك الإنفجار الى أطلال نصب هجين قبيح والشاهد الأكبر على أكبر جرائم العصر!
نعم، هي صوامع الغلال في بيروتنا، نستذكرها أسطورة من رحم أسطورة ميناء عريق متغلغل في عمق تاريخ يعود الى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ترويه مراسلات فرعونية – فينيقية، مروراً بالعصرين الروماني والأموي وتحكي لنا بفخر واعتزاز كيف تحوّل إلى أهم مركز تجاري وسياحي على مدى العصور، متوّجا كأول مقر للأساطيل العربية، وكيف أصبح بصورته الحديثة أواخر القرن التاسع عشر، بعد خضوعه في العام 1887 لأعمال إنشائية استهدفت تطويره، وكيف عمّت الإحتفالات عاصمتنا بانتهائها في العام 1894 إحتفاء بحقبة جديدة بتاريخ ذاك الميناء الأسطوري، ليتحوّل من مرفأ «طبيعي» متواضع إلى آخر متباهيًا بحداثته، معززًا بمنشآت ومرافق جديدة أبرزها الكرنتينا (للحجر االصحّي) والبنك العثماني، وموانئ متخصّصة منها: ميناء البطيخ وميناء البصل وميناء الخشب وميناء القمح.
صور ورسوم.. ولا صوامع!
اللافت أنه حتى ذاك التاريخ، وعلى رغم وجود عنابر للقمح ضمن منشآته، لم يرد أي ذكر أو وثائق تشير الى تشييد صوامع للقمح وفق المواصفات التي كانت عليها حتى لحظات الإنفجار.
فمنذ انتهاء عملية تطويره، تحوّل مرفأ بيروت الى «نجم» اجتذب عددًا كبيرًا من الرسامين الذين وثّقت ريشتهم جمال طبيعته وكل ما يحيط به، ولاحقاً ومع إنتشار التصوير الفوتوغرافي، تهافت مصوّرون محترفون ومسافرون وسيّاح لالتقاط صور له، ليحظى ميناء بيروت بعدد لا يُحصى من الصور التي عكست حركة السفن والقوارب والمسافرين والعمال والحاويات، كما عكست خلفيتها كل ما أحاط به من منشآت ومناظر طبيعية خلاّبة ومبانٍ بعيدة وقريبة. ولكن اللافت أنه وحتى أواخر الستينات، أي من هذه الصور لا يظهر المبنى الشاهق لصوامع بيروت، وحتى النصف الثاني من القرن العشرين، لتظهر أخيرًا وواضحة، في صورة مُلتقطة من على سطح مركب بالميناء تعود حقوقها لمؤسسة موندادوري الإيطالية، وأخرى للمصوّر الأميركي باري إيفرسون، وتظهر بشكل لافت مبانٍ شاهقة بعيدة.
صوامع بيروت.. عثمانية؟
خلافاً لمعلومات ضجت بها مواقع التواصل الإجتماعي مؤخرا زاعمة أن هذه الصوامع العملاقة بُنيت في أواخر القرن التاسع عشر، إبان تطوير المرفأ في عهد السلطة العثمانية. مشيرة الى أن «صوامع القمح الضخمة في الميناء هي الوحيدة التي صمدت أمام قوة الإنفجار وعملت كمصدات حمت الأبراج التي خلفها، وعند السؤال تبيّن أنها عثمانية بُنيت منذ نحو 200 عام، بل وإن هذا المرفأ كله أنشأه العثمانيون».
هذه المزاعم سرعان ما دحضت بسيل من المعلومات الأرشيفية والوثائق التاريخية، فضلا عن أرشيف الرسوم والصور الفوتوغرافية لمرفأ بيروت التي أكدت جميعها وبلا أي جدل حداثة عمر صوامع القمح في مرفأ بيروت، وما زاد تأكيدها أنه في العهد العثماني لم يكن الإسمنت المسلّح الذي شُيّدت به الصوامع قد اختُرع بعد، ما ينسف فرضية بنائها بشكل قاطع في العهد العثماني الذي انتهى في المنطقة العربية مطلع القرن الماضي.
لماذا أهراءات القمح في بيروت؟
يروي مؤسس ورئيس جمعية «تراثنا بيروت» سهيل منيمنة لـ»المسيرة» أن «مرفأ بيروت اعتُمد منذ زمن بعيد لتفريغ وتخزين القمح، وذلك على غرار معظم الدول التي تستورد قمحها، حيث لا بدّ من وجود هذه الصوامع في الميناء، كي تكون قريبة المناولة من السفن الناقلة، بسرعة وعملانية وبكلفة زهيدة».
وبخلاف المعلومات المُتعلّقة بتدشين صوامع الحبوب في المرفأ أواخر ستينات القرن الماضي، يلفت منيمنة الى بعض الدراسات التاريخية التي تشير إلى أنّ «مخازن القمح بُنيت في أواخر القرن التاسع عشر، ولكن ليس على شاكلة الصرح العملاق الذي ما يزال صامداً وشاهداً على جريمة تفجير بيروت».
حينها، يشرح منيمنة: «كانت عملية تخزين القمح تتمّ عبر مخازن خشبية، ما كان يسبب تلف المواد المخزّنة لإرتفاع نسبة الرطوبة عند مستوى الشاطئ وفي المدينة، كما أنّه يُعرّضها لإمكانية دخول القوارض والحشرات والفتك بالحبوب المخزنة».
ما كان لبنان يمتلك صوامع حديثة لتخزين الحبوب وتيسير تفريغها، ولكن استدعاء الحاجة وتزايد الطلب لتوسيع تخزين القمح، فضلاً عن أن المخازن التقليدية لم تعد كافية لاستيعاب الكميات القادمة من منطقة البقاع، ما دفع الحكومة اللبنانية آنذاك للتفكير في مشروع إنشاء الصوامع، ضمن أعمال أخرى خاصة بتدعيم المرفأ وتوسيع إمكاناته.
وبناء عليه، كان القرار ببناء مخزن للقمح في بيروت يستطيع أن يشكل نوعاً من الأمن الغذائي للبنان ودول الجوار بالنظر الى موقع بيروت الإستراتيجي.
وهذا ما كان وفق ما يروي منيمنة، ففي أواخر ستينات القرن الماضي، وعلى عهد الرئيس شارل حلو، اتّخذت الحكومة في عام 1965 قرار بناء صوامع لتخزين القمح في المرفأ، لتوكل مهام البناء الى شركة تشيكية Prumstav، التي إستمرت في مشروع البناء لمدة خمس سنوات، وشاركت في التصميم والتنفيذ أيدٍ لبنانية من ناحية التخطيط والهندسة والتسليح وكان سركيس جولفايان المدير المسؤول للعمال في بناء منشأة الأهراءات في بيروت بين الأعوام 1968-1970.
تمويل كويتي.. والتسديد على مراحل
ووفقا للوثائق، انطلقت عملية بناء أهراءات الحبوب عام 1968 بفضل قرض حصلت عليه الدولة اللبنانية من دولة الكويت، ووقعت إتفاقية القرض مع الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية في الكويت بتاريخ 7/8/1968، ليردّ لبنان قيمة القرض على مراحل، وعلى هذا وضع الرئيس شارل حلو وأمير الكويت الشيخ صباح السالم الصباح معًا حجر الأساس لصوامع الغلال في 16 أيلول 1968.
وهكذا وبعد أعمال بناء دامت سنة ونصف السنة، ارتفعت صوامع الحبوب في ميناء بيروت ليتمّ إفتتاحها عام 1970، بحضور أمير الكويت شخصياً، وانطلق العمل في الأهراءات، التي ضمت 48 مخزناً كبيراً، يستوعب كلّ منها 2500 طن، و50 مخزناً صغيراً يستوعب كلّ منها حوالي 600 طن، وهي تخزّن ما نسبته 85 في المئة من حبوب لبنان وقمحه.
الأكبر في الشرق الأوسط
في وصفه للأهراءات المشيّدة، يقول منيمنة: «كانت تمتاز بقدرة إستيعابية عالية، إذ تتسع لحوالي 120 ألف طن من القمح والحبوب، كما كان يتمتّع هيكلها إجمالاً بصلابة عالية نتيجة لمتانة بنائه، وللقواعد والأساسات الضخمة المدعّمة بالحديد والإسمنت المسلح، كما يوجد أسفل المبنى أروقة مدعّمة بالإسمنت المسلّح أيضاً، تمّ إنشاؤها أيام الحرب الأهلية في عام 1975، بهدف إختباء الموظفين في داخلها هرباً من القذائف التي كانت تطال المرفأ في بعض جولات الحرب المشؤومة».
ووفق وثائق هندسية، ينتمي المبنى إلى حقبة عمارة «الحداثة» التي انتشرت بداية الخمسينات، وصُممت آنذاك على أن تكون الأكبر في الشرق الأوسط ومعلمًا عمرانيًا حديثاً لواجهة بيروت البحرية، ولذلك استدعت الكثير من الدراسات الهندسية التي شكلت تحدياً في بنائها في تلك الحقبة.
ونشر موقع Idnes الإخباري التشيكي، في 6 آب 2020، تقريرًا عن العمل الذي أنجزته شركة البناء الكبيرة Prumstav في بناء صوامع الغلال تلك، وجاء فيه: «بينما بلغت سعة أكبر صومعة في ما كان يعرف آنذاك بتشيكوسلوفاكيا 92 ألف طن، فإن صوامع الغلال تلك (في بيروت) يمكن أن تخزّن نحو 120 ألف طن من الحبوب».
وأفاد الموقع أن أعمال بناء صوامع مرفأ بيروت «كلّفت 2.5 مليوني دولار». وقد أنجزت شركة Prumstav عملية البناء «على مراحل… بين عامي 1968 و1970». وأورد تفاصيل عن الصوامع: «إرتفاعها 63 متراً. تتألف سعتها الإستيعابية من 42 صومعة إسطوانية، بقطر داخلي 8.5 أمتار، وسماكة الجدران 17 سنتم، والإرتفاع 48 مترا. وتتقاطع جدران الأسطوانات في ثلاثة صفوف. ومع ذلك، تم فصل الصفوف عن بعضها البعض، وهناك 54 صينية أخرى بينها».
خزان القمح الإستراتيجي للبنان
والى ضخامة بنائها، شكلت أهراءات مرفأ بيروت شريانا حيويّا وضروريّا جدًّا للأمن الغذائيّ في لبنان، من خلال حفظ وإنتاج الحبوب والطحين، فضلًا عن قدرة تخزينية تكفي قرابة 85 في المئة من حاجة اللبنانيين، لتصبح من أوائل الصوامع في شرق البحر المتوسط، ما أسهم في تشجيع تجارة الحبوب عبر لبنان، ولتدرّ هذه المؤسسة التي يعتاش منها 60 عائلة لبنانية، أرباحًا طائلة على الخزينة اللبنانية.
أيقونة بيروت.. وتراث
نسأل الباحث المهتم بتراث بيروت ومينائها: هل تعتبر صوامع القمح من الأبنية التراثية؟
يجيب منيمنة: سؤال بدأ يتردد مؤخراً ويهمنا في جمعية تراث بيروت أن نوضح رؤيتنا المتعلقة بهذا الموضوع.
من ناحية المعايير المحلية والدولية لتصنيف المباني التراثية، تعتبر مبنى بتصنيف التراث الحديث خاصة ريادتنا المعمارية في ذلك الوقت. والأهم أنه بعد جريمة تفجير المرفأ المشؤومة تحولت الأهراءات إلى أيقونة للذاكرة الجماعية الوطنية وخاصة البيروتية. من هذا المنطلق يمكن اعتبارها تراثية بامتياز وستبقى كمعظم تراثنا يتم إنتقال ذكراها من جيل إلى جيل، ولو استمرت أيدي الظلم والظلام بمحاولات هدمها طمساً لمعلم جريمة لن تختفي من الذاكرة.
واجهت ثالث أكبر قوة إنفجار في العالم
وإن ينسى، فلن ينسى لبنان ولا العالم أجمع، كيف تمكنت أهراءات بيروت الشاهقة تلك من الصمود في وجه ثالث أكبر قوة إنفجار في العالم، كيف؟
في ذلك المساء المشؤوم من الرابع من شهر آب، عند الساعة السادسة وست دقائق، كان الإنفجار الذي زلزل بيروت ولبنان وكل العالم بفداحته، كل شيء تهدم، إلا تلك الهياكل المبنية بالباطون المسلح، تصدّعت نعم، لكنها بقيت واقفة منتصبة تتحدى هول الكارثة، وما اكتفت بذلك، ذهبت الى الأبعد بمقاومتها لتحمي بيروتها من فاجعة أكبر وأكبر.
كيف تمكنت أهراءات بيروت من الصمود.. كيف حمت بيروت؟
تشكل مبنى الأهراءات من هياكل خرسانية إسمنتية مسلّحة، وقد شُبّهت بالجدران الرومانية التي كانت تحمي المدن عبر التاريخ، وهذا ما حصل حقاً في ذاك المساء المشؤوم، حيث أجمع المراقبون والمهندسون على أن أساس المبنى الإسمنتي القوي للأهراءات تمكن من مقاومة وإمتصاص قوة إنفجار 4 آب المزلزل، فبقي واقفاً على رغم الدمار محاذياً المرفأ، وأكثر من ذلك، منعه أيضًا من التمدد صوب غرب بيروت، ووجهه بغالبية عصفه التدميري نحو البحر، ما جنّب بيروت وأهلها المزيد من الضحايا والدمار والخراب، بالرغم من فداحة وكارثية ما حل بالعديد من الأحياء البيروتية التراثية المجاورة للمرفأ.
سقوط أم انتحار؟
لكن صمود أهراءات بيروت لم يدم طويلاً.. فما بين تساقطها تباعًا بجزئها الشمالي، مع وعود بتدعيم جزئها الجنوبي، يبقى السؤال الى متى تصمد؟ وهل يؤجل تدعميها سقوطها؟
تتوالى الدعوات الى تحويل هذا المبنى إلى موقع سياحي ونصب تذكاري كشاهد على واحد من أضخم إنفجارات التاريخ، حيث يعمد معظم الدول الى إنشاء نصب تذكاريّ إثر حصول حادث كارثي بهذا الحجم، وخير مثال على ذلك مبنى قبة جينباكو في اليابان الشاهد حتى اليوم على إنفجار هيروشيما. فعلى الرغم من إعادة إعمار المدينة، تمّت المحافظة على هذا المبنى، وأُقيم حوله منتزه، وهو اليوم يُعتبر كنصب تذكاري للسلام ومُسجَّل على لائحة التراث العالميّ لليونسكو، علما بأن الإنفجار الذي حصل في بيروت هو بحجم قنبلة هيروشيما، وتعلو الأصوات لعدم نسيانه، خصوصًا أن الأهراءات تشكّل ذاكرة هذا الإنفجار الأليم، والشاهد الأكبر عليه، فيما تدير الدولة اللبنانية ظهرها متذرّعة بأنه ما عاد مُمكناً الحفاظ على الأهراءات المتداعية، خلافاً لآراء المهندسين والخبراء، وكيف لا، وهي الشاهدة على إنفجار هز الدنيا وخير شاهد على فساد عهد لن يكون يومًا قادرًا على الإعمار وما عَرِفَ غير الدمار.
نعم رأينا أهراءات بيروت بكل ضخامتها وعنفوانها تحترق بمخزونها ، تتمايل وتتهاوى يومًا بعد يوم، وقلوبنا عليها تنفطر، صمدت بوجه الإنفجار، ولكأنها أبت الصمود أمام ما خلّفه، رأيناها تتمايل حزناً وحسرة، وربما انتحارًا، هي واجهة بيروت لكأنها صبية حلوة عظم عليها أن ترى ما آلت إليه حالها مشوّهة هجينة، مجروحة بقتلها مرتين، مرة بذاك الإنفجار وأخرى بقرارات وسجالات من هنا وهناك أرادت هدمها وإسكات صوتها الصارخ، هي الشاهد الأكبر على فظاعة ما ارتكبته أيديهم بحق بيروت وناسها، تتمايل أهراءات بيروت، لكأنها تنتحر إحتراقاً وحسرة على بيروتها ومينائها وعز لبنانها، ترحل ببطء وسط صخب، وتبقى في البال «البطلة» حامية بيروت في وجه سلطة مجرمة، وصفحة من صفحات أمجاد لبنان وعزّ أيامه.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]