بكركي والرئاسة: الوطن قبل السياسة

حجم الخط

كتب أنطوان مراد في “المسيرة” – العدد 1733

إن مجرد إستعراض مدى إرتباط البطريركية المارونية بلبنان تاريخيًا، أقلّه في الحقبة الحديثة منذ نحو مئة عام وحتى اليوم، يكفي للتأكيد على أنها معنية جدًا بأي إستحقاق ذي بعد وطني ويتصل بحماية لبنان من العثرات والأزمات والحفاظ على الميثاق الذي يتقدم على الدستور، ولو أنها تحرص على عدم التدخل المباشر بل تفضل طرح المواقف المبدئية والدلالة على الخطأ والصواب.

فالبطريرك الياس الحويك هو بطريرك لبنان الكبير، والبطريرك أنطون عريضة هو بطريرك الإستقلال، والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير هو بطريرك الإستقلال الثاني. على أن موقع رئاسة الجمهورية له وقع خاص وثابت في بكركي، لأنه يعود عرفاً إلى المسيحيين وتحديدًا إلى الطائفة المارونية، وهو الموقع المسيحي الوحيد على هذا المستوى في الشرق الأوسط وفي الدول العربية من المحيط إلى الخليج، ومن تركيا مرورًا بإيران وآسيا الوسطى إلى باكستان وأفغانستان.

من هنا يمكن فهم تعاطي بكركي بنوع من الرعاية الدائمة لموقع الرئاسة بمعزل عن شخص شاغلها، ولو فرّقت بينهما خلافات قد تكون جذرية أحياناً. والواقع أن البطاركة الموارنة على مر تاريخ الجمهورية لم يتورطوا كثيرًا في الإستحقاقات الرئاسية، باستثناء البطريرك صفير الذي اضطُر للتدخل بنوع من التحفظ أحياناً نظرًا للظروف الضاغطة، وتجنبًا للمزيد من التدهور والإنقسامات والتعطيل في حينه.

وبالعودة تاريخًا، عندما تناول البطريرك الحويك القلم مع جورج كليمنصو ليرسم خارطة لبنان الكبير وعاد متأبطاً الخارطة بانتظار إعلان الدولة الجديدة في 31 آب 1920، كان يرتاب دائمًا من الوعد الفرنسي بالإستقلال وهو القائل: إن فرنسا كالشمس، تدفئ من بعيد وتحرق من قريب. على أنه كان على ثقة بأن فرنسا تريد نجاح تجربة لبنان كدولة يكون للمسيحيين فيها الكلمة الوازنة في إطار الشراكة مع المسلمين.

لقد واصل البطريرك الحويك مواكبة التطورات عن كثب، لا سيما في ما يتعلق بالدستور الجديد الذي أُعلن في 23 أيار 1926، حيث ركز على أهمية موقع رئاسة الجمهورية كموقع جامع، ولم يطالب بتكريس الرئاسة للمسيحيين أو للموارنة دستوريًا، لكنه اعتبر أن المسألة في دائرة تحصيل الحاصل كعرف يمكن اعتماده (مع إستثناء حالة أول رئيس، الأرثوذكسي  شارل دباس)، وهو البطريرك الذي رفض في الوقت عينه جعل المؤسسات الكنسية كجزء من الدولة على غرار ما حصل مع الإفتاء والمحاكم الشرعية الإسلامية، ليحسم باكرًا موقف بكركي المناصر للدولة المدنية.

مع إقتراب نهاية ولاية الرئيس شارل دباس، ومنعًا لفرصة وصول الشيخ بشارة الخوري لرئاسة الجمهورية، سعى خصمه التاريخي إميل إده الى رهان ملغوم، وهو ترشيح رئيس مجلس النواب الشيخ محمد الجسر للرئاسة، ليستقطب تأييد المسلمين الذين كانوا يتعاطفون مع الخوري. وكان رد الجسر بأن العقدة الأبرز هي في موقف البطريرك أنطون عريضة الذي خلَف البطريرك الحويك، فضلاً عن ضرورة إقناع الفرنسيين، لكن المفوض السامي هنري بونصو رفض هذا الخيار وأدرك أن سيد بكركي سيرفضه أيضًا، وأبلغ الجسر وصديقه الشيخ يوسف الخازن بالتالي: هل تريدان أن أبلغ “الكي دورسيه”، أي وزارة الخارجية في باريس بأن فرنسا تسعى إلى تنصيب رئيس مسلم للجمهورية اللبنلنية؟ أرجوكم، أبعدوا عني هذه الكأس. وكان المَخرج بتعليق الدستور بقرار فرنسي ما خفف عن سيد بكركي إحراجًا كبيرًا، علمًا أن البطريرك عريضة كان وطنيًا صرفاً في مواقفه، بل إن موقفه الصارم من قرار الإنتداب الفرنسي إحتكار التبغ لمصلحته، أثار تأييدًا واسعًا في لبنان وسوريا، فرُفع إسمه في الجامع الأموي في دمشق وصوره في شوارعها، وراح المتظاهرون يهتفون: “البطرك عريضة حبيب الله”.

لقد تحفظ البطريرك عريضة على إعادة انتخاب الرئيس بشارة الخوري، وانضم متأخرًا إلى تأييد هذا الخيار بتحفظ، بعدما بات أمرًا واقعًا. وفي العام 1955 خلف البطريرك بولس المعوشي البطريرك عريضة، وسرعان ما اصطدم بالرئيس كميل شمعون على خلفية ثورة 1958، فكان البطريرك أقرب إلى الرئيس عبد الناصر، وسمح لوفد إسلامي بالصلاة في الصرح البطريركي، وعارض بشدة التجديد للرئيس شمعون، ولو أن الأخير لم يبدِ رغبة علنية بذلك.

ومع نهاية عهد الرئيس شمعون، كان البطريرك المعوشي يفضل أن يعود بشارة الخوري إلى الرئاسة الأولى بدلاً من فؤاد شهاب، لكنه عاد ووافق على مضض وسادت علاقة جيدة بينهما، ثم ساءت قبيل منتصف العهد عندما أقال البطريرك المطران يوسف الخوري من منصب النائب البطريركي العام في بكركي ونقله الى أبرشية صور بعدما انزعج من صبغته الشهابية ليختار مكانه نصرالله صفير بعد سيامته.

أما البطريرك أنطونيوس خريش فنأى بنفسه عن الإستحقاقات الرئاسية، ولو أنه رفض إستقالة الرئيس سليمان فرنجية في ضوء عريضة وقعتها الأكثرية النيابية، كما أنه لم يبدِ أي ردة فعل على ترشح الياس سركيس خلفاً لسليمان فرنجية ولا على ترشح كل من بشير الجميل وأمين الجميل على التوالي، على الرغم من دقة التطورات آنذاك، فقد كان حريصًا على تجنّب أي حالات صدامية أو إشكالية.

أما البطريرك صفير فواجه حالات صعبة بل شبه مستعصية، لا سيما في ظل تفاقم التطورات الدستورية والسياسية والميدانية في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وهو الذي طلب إليه الأميركيون وضع لائحة بأسماء يختارها لخلافة الرئيس أمين الجميل، فذهبت أدراج الرياح، فضلاً عن طلب مماثل من الفرنسيين بعد نهاية عهد الرئيس إميل لحود ولم يؤخذ بها أيضًا.

ومعروف أن البطريرك صفير رفض خيار التمديد لكل من الرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود، لكنه حرص على التعامل معهما بواقعية بعد التمديد. على أنه ومع تصاعد إنتفاضة الإستقلال في وجه لحود، فقد دعاه صراحة إلى التفكير في الإستقالة، لكن البطريرك صفير اعترض في الوقت عينه على أي إقالة بالقوة، ولو كانت قوة الشارع.

أما البطريرك مار بشارة بطرس الراعي فواجه ما يمكن وصفه بحالة تعجيزية، مع نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان، وتمادي لوثة التعطيل، وحاول مرارًا التدخل غير المباشر وأحيانا المباشر وصولاً إلى تسمية المرشحين الموارنة الأبرز للرئاسة، وكان أن قادت التطورات إلى حصر الخيار عمليًا بين سمير جعجع وميشال عون، وطال التعطيل، ليُبلِغَ جعجع سيد بكركي إنسحابه من المعركة لمصلحة رئيس مستقل، لكن خيارالرئيس سعد الحريري ومعه وليد جنبلاط جعلاهما يسلّمان بمرشح من 8 آذار، فسلّم البطريرك الراعي باسم العماد عون لا سيما مع إتفاق معراب، ما دفع البطريرك إلى التفاؤل على خلفية التوافق المسيحي، لكن التجربة لاحقاً عكست مرارة كبيرة لديه، وبخاصة مع تأكده من مدى استقواء “حزب الله” على اللبنانيين مستغلاً تفاهم مار مخايل، فبرزت سلسلة مواقف له تركز صراحة على مواصفات للرئيس العتيد تتصل بالسيادة والإصلاح ورفض الإنضمام إلى المحاور الخارجية.

ويدرك البطريرك الراعي أن لبنان تعب من التجارب، وأن الانتخابات الرئاسية هذه المرة ينبغي أن تكون فاتحة الحلول، بعدما بات لبنان في هاوية سحيقة على مختلف الصعد، ولذلك رفض في منتصف آب الماضي الأسلوب الإستدراجي الذي لجأ إليه رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل عندما طرح مواصفات رئاسية على قياسه عند عتبة الديمان بعد زيارة سيد الصرح، ما اضطُر الأخير في الغداة، أي في عظة الأحد إلى الرد المهذب بالتأكيد على أن لبنان يحتاج رئيسًا يسعى لإعلان حياد لبنان، ويسحبه من الصراعات الخارجية لا أن يجدد إقامته فيها، ويلتزم القرارات الدولية ويعيد إلى لبنان دوره العربي والدولي. على أن تشديد سيد بكركي يبقى على انتخابات رئاسية في موعدها، لأن التلاعب بالموعد يفتح الباب أمام فراغ قاتل ويضع البلاد في مهب الريح والفوضى.

كان التوافق على أن يكون أول رئيس للجمهورية اللبنانية رجل حكمة واعتدال ونزاهة، وانطبقت هذه المواصفات على مدير العدلية الأرثوذكسي شارل دباس الذي حظي بدعم سلطة الإنتداب الفرنسي لا سيما وأن زوجته فرنسية.

لكن نقطة ضعف دباس كانت عند البطريرك الياس الحويك، “القابلة القانونية” لدولة لبنان الكبير، إذ كان البطريرك، وعلى رغم عدم إصراره على حصر موقع الرئاسة بالموارنة وحتى بالمسيحيين دستوريًا، يعتبر أن المنطق يفترض أن تعطى رئاسة الجمهورية للطائفة المسيحية الأكبر، أي للموارنة.

وعلى ما يقول وليد عوض في كتابه “بشارة الخوري فارس الموارنة العرب”، فقد احتاج الأمر زيارتين من المفوض السامي الكونت دو جوفينيل لبكركي، وفي المرة الأولى كان البطريرك معاندًا واللقاء عاصفاً، فيما تمكن دو جوفينيل في الزيارة الثانية من إقناع البطريرك الماروني بحيث لا يكون دباس سابقة يُقاس عليها في ما بعد، بل يكون إستثناء لمرة واحدة فقط.

 

أنطوان مراد – مستشار رئيس حزب القوات اللبنانية لشؤون الرئاسة

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل