كتبت جومانا نصر في “المسيرة” – العدد 1733
31 تشرين الأول 2022. تذكروا هذا التاريخ جيدًا. أحفروه في ذاكرتكم. طرّزوا حروفه، وضعوه في إطار على مرمى أنظاركم لتتأكدوا مع كل طلعة شمس، مع كل نبضة وخفقة قلب أنكم كنتم ذات ليل تشريني شهوداً على عهد سطّر تاريخ لبنان بالشؤم والموت والفقر والهجرة والعزلة الدولية والإحتلال والذل والقمع ومحاولات تغيير هوية لبنان…
اللائحة طويلة وذيولها ستمتد لأجيال وأجيال. المهم أن العد العكسي بدأ، فاستعدّوا لقلب صفحة الروزنامة بغضب بسخط والكثير الكثير من العنفوان والكرامة، ولا تمزقوها. نعم لا تمزقوها. إلى هذا الحد سيكون هذا التاريخ في عمر شعب وأجيال محطة مفصلية، ومسبحة روايات عن عهد كنتم فيه شهود زور على ما اقترفته أيادي حكام المنظومة. مع ذلك تعالوا نتذكر ولو لومضات شيئاً من ذاك الصباح التشريني في 31 تشرين الأول 2016.
عندما دخل ميشال عون القصر الجمهوري كانت المرة الثانية التي تعود فيها الحياة إليه بعد عامين ونصف العام من الفراغ الرئاسي. المرة الأولى كانت قبل وصول الرئيس الراحل الياس الهراوي حيث بقي القصر مهجورًا مدة عامين ونصف العام أيضًا بعد 13 تشرين الأول 1990. يومها بقيت رئاسة الجمهورية لاجئة في بناية في الرملة البيضاء قبل أن يقرر الهراوي إعادة ترميم القصر والعودة إليه.
إنتهى العهد. هكذا ينص الدستور. ستة أعوام عبرت كأنها دهر. ستة أعوام غيّرت وجه الجمهورية، خطفت أنفاس شعبٍ وأفرغت وطناً من شبابه وخطفت أرواح 230 ضحية ذنبهم أنهم كانوا يعيشون فوق بركان نيترات الأمونيوم في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت من دون أن تدري، في حين كان السفاح الذي خزّنها… يدري!
«ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية» قالها رئيس مجلس النواب نبيه بري معلناً فوزه في جولة الإقتراع الثانية (التي أُعيدت 3 مرات على غير العادة)، وحاز على 83 صوتاً في مقابل 36 ورقة بيضاء و7 أوراق ملغاة، وورقة للنائبة ستريدا جعجع.
ذاك اليوم من 31 تشرين الأول 2016 قال عون في خطاب القسم الذي تلاه بعد القسم: «إن أول خطوة نحو الإستقرار المنشود هي في الإستقرار السياسي، وذلك لا يمكن أن يتأمن إلا باحترام الميثاق والدستور والقوانين من خلال الشراكة الوطنية التي هي جوهر نظامنا وفرادة كياننا».
وقال أيضاً: «إن بلوغ الإستقرار الأمني لا يتم إلاّ بتنسيق كامل بين المؤسسات الأمنية والقضاء. ومن واجب الحكم تحريرهما من التبعية السياسية… أما الإستقرار الإقتصادي والإجتماعي فيفرض علينا نهجاً تغييرياً لمعالجتها يبدأ بإصلاح إقتصادي يقوم على التخطيط فلا يمكن أن نستمر من دون خطة إقتصادية شاملة…».
قال وقال وقال… ماذا تحقق من هذا الكلام؟ على مدى ستة أعوام تحوّل اللبنانيون إلى شعب بائس متشائم يستعطي حقوقه المدنية والإجتماعية ويشحذ من رصيد ودائعه إما بالذل أو بقوة السلاح. وبشهادة الشعب الغارق في عتمة جهنم «كان العهد الأسوأ في حياتهم». فإن كنتم تدرون مصيبة، وإذا لا، بفعل إحاطتكم بـ»مستشاري» البلاط الذين يخفون الحقائق فالمصيبة أكبر. لكن تذكروا التاريخ يسجل ويحاكم!
لن نعود أكثر إلى الماضي ولن نغرق في «الفرحة» التي تلقفناها بالقوة. ما يهم هو اللحظة. ومن هذه اللحظة بدأ العدّ العكسي وساعة الصفر حددها الدستور منتصف ليل 31 تشرين الأول 2022 أيًا تكن «طبخة» الإجتهادات التي بدأت تغلي في أروقة القصر الجمهوري لتمديد إقامة الرئيس الـ13 في بعبدا ووصول الرئيس الـ14 إلى القصر الجمهوري. ولعلمكم الاجتهادات لا تلغي مواد الدستور!
31 تشرين الأول 2022. لن يعود السؤال من الرئيس العتيد؟ بل ماذا يطلب اللبنانيون من الرئيس العتيد؟
اللبنانيون أيها الرئيس العتيد لا يريدون أن يعيشوا من «قلة الموت» أو أن يُقتلوا برصاصة طائشة أو غرقاً في زوارق الموت هرباً من جحيم العيش وقهر الحياة، أو على أبواب المستشفيات، في حين أيًا من حكام المنظومة لا يموت خجلا!
اللبنانيون يريدون أن يستردوا جنى عمرهم الذي نهبته أيادي الفاسدين «والبلطجيي» وتعلمون كما نحن، من هم «هؤلاء» بالأسماء ومن يغطي فسادهم ويسكت ويبارك أو يتقاسم معهم الغنائم.
اللبنانيون أيها الرئيس العتيد يطالبونك بأن تُعيد إليهم «حرمة» الجمهورية وكرامتها قبل أن تجلس على الكرسي الذي ستستبدله حتماً بآخر على قياس كرامتك ووطنيتك، وأن تعيد إليهم الوطن الذي حلموا به لأبنائهم، والأرض التي ارتوت بدماء آلاف الشهداء لتبقى ونبقى بكرامة وعنفوان.
اللبنانيون يريدون أن يأكلوا لقمة عيشهم بكرامة لا استعطاءً، وأن لا يموتوا على أبواب المستشفيات أو على سرير المرض لأنهم لا يملكون كلفة إجراء عملية أو شراء دواء… هذا إذا توافر!
ما يريده اللبنانيون أيها الرئيس العتيد أن يملأوا خزانات سياراتهم بالوقود ليتوجهوا بها إلى مراكز عملهم لا أن يربطوا ليلهم بنهارهم ليملأوها وقودا بالفريش دولار.
هم يريدون أن ينال أولادهم حقهم من العلم في المدارس والجامعات وأن يستعيد لبنان وهجه على خارطة العلم والثقافة، وأن تسقط نظرية الهجرة من أحلامهم وطموحاتهم، بعدما صارت الغربة الملاذ الآمن والوطن البديل الذي يحتضن حتى… رفاتهم!
وأنتم تقسمون اليمين على الدستور تذكر أيها الرئيس العتيد أن هناك 230 ضحية تطايرت أشلاء في جريمة تفجير المرفأ قبل عامين. حصل ذلك في عهد السلف، وغالبية من كانوا يجلسون على الكراسي من سياسيين وأجهزة كانوا يعلمون. نعم أيها الرئيس العتيد كانوا يعلمون أن «ثمة» حزباً يملك السلاح ويحكم بإسم «الله» كان يخبئ مادة نيترات الأمونيوم في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت إلى أن جاء القرار بتفجيرها في السادسة و7 دقائق من عصر ذاك الرابع من آب.
سيطالبونك بتحرير ملف التحقيق الذي تناوب عليه قاضيا تحقيق والأخير لا يزال ينتظر التشكيلات القضائية لكف يده. في حين استفتى وزير العدل قرارًا بتعيين قاضٍ ثان في الملف للنظر في ملفات الموقوفين. والله هذه سابقة وأنتم حتمًا تدركون ذلك.
وأنتم تدلون بالقسم «أحلف بالله العظيم أن أحترم دستور الأمة اللبنانية وقوانينها، واحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه» تذكّر صرخات أهالي الضحايا ودموعهم. حاول أن تسكن حرقة قلب أم على فقدان وحيدها والغالي الذي ودعها ذات صباح على أمل رؤيتها مساء. تذكّر أبطال الدفاع المدني الذين هبّوا لإطفاء «حريق عادي اندلع في المرفأ» – كما أبلغوهم – ليكتشفوا عند وصولهم، أن القصة «أكبر وأخطر» مع ذلك لم يهربوا. لم يتراجعوا. حتى التصقت أجسادهم وذابت بفعل قوة الحريق لحظة الإنفجار.
أهالي ضحايا المرفأ لو تستقبلهم أيها الرئيس العتيد بعدما رفض «رئيس القصر» أن تطأ أقدامهم عتبة هذا السجن الكبير الذي يأسر فيه مع حليفه الحاكم بأمر الله وحاشيته وطناً بكامله ومؤسساته وأجهزته الأمنية وشعبا. لو… فهم لا يريدون منك إلا الحقيقة والحقيقة فقط. وإذا كنت عاجزًا أو مكبّلاً إفعلها من أول الطريق وقدم إستقالتك واعتذر من أهالي الضحايا والجرحى والمتضررين.
من الرئيس العتيد يريد اللبنانيون الكثير الكثير ليعود الوطن إلى قلب الجمهورية… لكن قبل أي شيء يريدون منك أن تحرر الدولة من الدويلة، وأن تتحالف مع السيادة والحياد والكرامة، وتتسلّح بالكثير الكثير من العنفوان والكرامة.
• في رسالة من سطر واحد، تقاعد الجنرال ديغول وغادر قصر الإليزيه إلى منزله الريفي في كولومبي فصار مجد فرنسا هناك. يوم دخل قصر الإليزيه كانت فرنسا هزيلة مفككة مهددة بالحرب الأهلية وذليلة أمام شركائها الغربيين. وعندما غادره كانت فرنسا دولة صناعية كبرى.
الجنرال فؤاد شهاب تقاعد في رسالة من أربعة أسطر. عاد إلى منزله المتواضع من دون معركة عسكرية واحدة ومن دون تعيينات وعائليات وصفقات وشبهات. أنهى حرب 1958، واحلّ محلها السلام والدولة. لم يقبل شيئاً ولم يساوم في شيء. أحاط نفسه بمن هم مثله في عزة النفس وكرامة الذات وليس بينهم غنيٌّ واحد أو فاسدٌّ واحد. الأمانة بالنسبة إليه كانت مطلقة، والقسم أقدس من الكتاب. وإلا فلماذا الجمهوريات إن كانت سوف تُسلّم لقياصرة الطاقة وسلاطين المحروقات.
واحدٌ من هذين المثالين يريده اللبنانيون. وإلا سلام على الجمهورية!
• خطاب التقاعد للكاتب سمير عطالله
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]