كتب الياس الزغبي في “المسيرة” – العدد 1733
قبل الحديث عن رئيس الجمهورية الجديد بمواصفاته وإسمه ومدى أحقيته في تسلّم أعلى سدّة في الدولة، يجب أن نتحدّث ولو بصورة سريعة عن الرئاسة في حدّ ذاتها، أي عن المقام.
فهذا المقام الذي كان قبلة الأنظار في الداخل والخارج، ومرجعاً للبحث عن حلول لأي مشكلة أو مأزق، تحوّل للأسف منذ سنوات ست إلى نقيض قيمته الوطنية والدستورية والسياسية والتمثيلية. لذلك يجب أن نبحث عن الوسائل والسبل التي تعيد إلى هذا المقام ألَقَهُ ومحوريته في الحياة السياسية اللبنانية وترسيم مستقبل لبنان.
هذه المسؤولية تقع على عاتق القوى السياسية والنيابية تحديداً في استعادة مستوى هذا الموقع ودوره ورسالته، من خلال رفع مستوى التحضير للإستحقاق الإنتخابي، فتقوم هذه القوى الحريصة على مقام الرئاسة الأولى وعلى معنى الدولة اللبنانية بسلسلة خطوات تتوّجها بإسم الرئيس العتيد ولا تفعل العكس بحيث تبحث عن الإسم وتنسى أن المقام في حد ذاته بحاجة إلى إعادة إنتخاب وإحياء في مسيرة لبنان المقبلة، وبالتحديد فإن المسؤولية تقع على الجانب المسيحي من دون سواه، علماً أنه موقع وطني يهم جميع المكوّنات والأطراف بالمستوى نفسه. لكن طالما أن هذا الموقع يمثل في النظام اللبناني المسيحيين، فإن المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على القوى المسيحية لإعادة الوهج الوطني لرئاسة الجمهورية، وتحديداً أكثر إنها مسؤولية بكركي والأحزاب ذات الطابع المسيحي وسائر الشخصيات والفاعليات النيابية والسياسية في البيئة المسيحية عموماً حتى تأخذ هذه القوى مسؤوليتها في استنهاض الموقع الرئاسي وتحريره من قبضة وصاية فريق الممانعة عليه، وهذان التحرير والإستنهاض يفرضان إستطراداً إختيار الشخصية المؤهلة للقيام بهذا الدور في موقع الرئاسة.
في الإنتخابات الرئاسية السابقة لم تحدث أخطاء ذات دلالات سلبية كما حصل في انتخاب الرئيس الحالي الآيل عهده إلى الإنتهاء، إذ ارتكب وأخطأ في أداء القسم الدستوري فاستدرك رئيس مجلس النواب نبيه بري الأمر وصحّح له تلاوة القسم.
قد تكون هذه إشارة شكلية وعابرة، صحيح لكنها كانت بمثابة إرهاص ودليل لمسار العهد بأكمله لأن الممارسة على مدى سنوات ست، أثبتت أن هناك مخالفات واضحة للدستور في غير مناسبة وفي غير استحقاق حكومي أو سياسي.
الأخطر من كل هذه الممارسة هو ما يلوِّح به الرئيس ميشال عون ووريثه السياسي من إجراءات مجافية ومخالفة حكماً للدستور والقانون، ومنها مثلاً التهديد «بفوضى دستورية» مضادة بحجة إستلام حكومة تصريف الأعمال مسؤولية الرئاسة الأولى في حال الشغور.
هذا التهديد يعيدنا 33 عاماً إلى الوراء وفي تشرين بالضبط. ففي تشرين من العام 1989 رفض العماد عون آنذاك إتفاق الطائف وبادر إلى حلّ مجلس النواب لأنه لم ينتخبه، ودخل في حربين: «التحرير» و»الإلغاء». والآن في تشرين المقبل يهدد برفض حكومة ميقاتي وبالتمرد على مجلس النواب لأنه لن ينتخب وريثهُ. وهنا تصحّ نبوءة كارل ماركس الشهيرة «نعم التاريخ يعيد نفسه إما بشكل مأساة وإما بشكل ملهاة».
ما هو المطلوب من الرئيس العتيد؟
بناء على العرض التحليلي يجب أن ندرك هول وضخامة ومسؤولية الرئيس العتيد. فالمسؤولية الأولى التي تتوّج سائر المسؤوليات هي أن يسعى إلى استعادة مستوى رئاسة الجمهورية سياسياً وأخلاقياً. ونأن أن يكون ثانيا قوياً فعلاً حيث يكون للقوة معناها الوطني أي مثلاً أن ينفّذ قسمه الدستوري في إنقاذ السيادة الوطنية وإسقاط هيمنة السلاح غير الشرعي على هذه السيادة. وثالثا، أن يسعى إلى إعادة الحياة إلى مؤسسات الدولة التي انهارت تباعاً وفي مقدمها مؤسسة القضاء والعدالة التي شهدت حالة تشرذم وتفكك وخضوع للقرار السياسي بدلاً من أن يكون سلطة دستورية. وقد كان ما جرى في الأيام الأولى من أيلول دليلاً قاطعاً على تدخل الرئاسة الأولى في القضاء العدلي وفي مجلس القضاء الأعلى لدوافع ذاتية، ومصالح شخصية بحجة الإفراج عن بعض الموقوفين في ملف تفجير المرفأ. وأخيرًا إعادة ربط لبنان بسياقه العربي التاريخي وانفتاحه على العالم.
ما هو المطلوب من النواب؟
طالما أن مواصفات رئيس الجمهورية العتيد متقاربة، لا بل أكثر متداخلة إلى حد بعيد بين كل المجموعات الحزبية وسائر الفعاليات السيادية، وكذلك مع بكركي ومرجعيات روحية أخرى، فإن مسؤولية باتت ملقاة على عاتق هؤلاء النواب جميعاً ليس فقط من باب توحيد الرأي والرؤية، بل من باب الإتفاق على إسم الرئيس العتيد أو على الأكثر طرح إسمين أمام سائر الأطراف الأخرى كي يتم الإختيار بينهما على الأقل كي يكون هناك مظهر ديمقراطي كما يحصل في الدول المتقدمة.
وطالما أن المجموعات النيابية المحسوبة على المعارضة جميعا فازت بمقاعدها على خلفية الإختلاف مع هيمنة سلاح «حزب الله» على الدولة، وطالما أنها متقاربة في طرح علاجات الإصلاح وتحديد آفاق الحل، فإن مسؤوليتها باتت مضاعفة في بلوغ مرحلة التسمية، وهي فرصة نادرة وفقاً لهذه التمايزات الواسعة بين هذه الكتل النيابية والنواب المستقلين والأحزاب. ويجب على الأقل إحترام كل فرد بمفرده واحترام المجموعات أكثر فأكثر، لأن المجموعات النيابية الكبرى تشكل حالة تمثيلية حاسمة كبرى وليس فردية فقط، لذلك يجب الأخذ بهذا المعيار أي إحترام كل نائب فرد والإحترام الأكبر للمجموعات. إذ ذاك، يسهل التنسيق والتوصل إلى إسم موحّد أو إسمين، يتجسّد فيهما الأمل في استعادة الموقع الرئاسي الأول إلى ألقهِ ومستواه، وليس فقط تحريره من نير السيطرة والسطوة الغريبة التي تجسدها في هذه المرحلة السيطرة الإيرانية.
واستناداً إلى مواقف جميع هذه الكتل النيابية المستقلة والتزاماتها المعلنة، فإن الأمر الأخلاقي البديهي هو التزامهم بما أعلنوه، فلا يقعون من حيث يدرون أو لا يدرون بالمساومة بحجة التوافق وتمرير المرحلة والتسويات وما إلى ذلك من تسميات.
أما وأننا في وضع إستثنائي ومصيري سيتحدد من خلاله مستقبل لبنان برمته، فإن المسؤولية تصبح مباشرة تحت مجهر العيون المفتوحة من الرأي العام اللبناني ومن المرجعيات الدولية والعربية. لذلك فإنها فرصة إستثنائية قد لا تتكرر لا في المستقبل القريب ولا البعيد، لأن الحالة اللبنانية الراهنة غير قادرة على إعادة الإنتاج نظرًا لمدى سوئها وفظاعتها، ولا يمكن تخيّل تكرارها في المستقبل اللبناني ولا حتى في مستقبل أي دولة سويّة وطبيعية تطمح إلى نوع من الإستقرار المستدام.
الياس الزغبي – كاتب ومحلل سياسي
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]