رحلة في زمن الجنرال: بين الرقمين 13 و31

حجم الخط

تكاد الأيام المتبقية من عهد ميشال عون تروي مراحل كثيرة من حياته، او تختصر رحلته، التي بدأت منذ أن تسلم الحكومة العسكرية في ثمانينات القرن الماضي الى يومنا هذا. ايام من سنوات عجاف، لا انجاز فيها ولا نجاح. إنه الهزيع الأخير الكاشف للحقيقة المؤلمة: لبنان في عهده ليس بخير.

كل من قابله في ذلك الزمن وصفه بــ «المستعجل». كثيرون نصحوه بأن لا يحكم بحكومة عسكرية منقوصة التمثيل والتنوع. يكفي استرجاع ما قاله نواب المنطقة الشرقية آنذاك، لنصل الى نتيجة: إنه من السلطة ينطلق واليها يعود.

كان يعطي الأوامر للنواب، افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا. احدهم قال: كان يرفض مجرد طرح فكرة أن يسهّل انتخاب رئيس جمهورية. فالحكومة العسكرية التي شكلها عجزت عن تقديم ابسط الخدمات المعيشية للمواطنين. نصحوه أيضا بأن يُخرِج المؤسسة العسكرية من الصراعات الداخلية. حينها لم يصل نضجه السياسي لمرحلة يعقل فيها مقولة أن المرحلة هي مرحلة يتفرد فيها بصنع الرؤساء، لا أن يصنع من نفسه رئيساً. هكذا حرق المراحل فكان ما كان.

اعتقدَ بحماسة خالية من الحكمة والتواضع أن الحكم كناية عن شرفة يطل منها على جموع شعبوية تهتف له، ثم يخاطب غريزتها بكلمات تقفز فوق الواقع: يا شعب لبنان العظيم. يصعب تحديد مَن ضحية مَن. الجنرال ضحيه شعبه ام الشعب ضحية الجنرال.

كرّر ذلك من الرابية، حيث كان يطلُّ كلّ أسبوع، مهاجماً منتقداً، ثم ما يلبث أن يدخل معهم في تسويات. السياسة بمعناها النبيل، أي فن الحكم، ليست في قاموسه. شعار «حقوق المسيحيين» أراده ان يُصرف في كل زمان ومكان، وقد اتخذه وسيلة للتحريض والتعمية، على واقع العجز في الحكم والسياسة.

هو ليس من النوع الذي يصنع الاحداث، بل الاحداث والصدف تصنعه. استبدت به فكرة السلطة. فكل الوسائل اذن متاحة امامه. لم ينتصر لا في معركة عسكرية ولا في صراع سياسي، انما رفض ان يعلن هزيمته، والمفارقة المؤلمة، أنه يجد دائما من يصدّقه.

يعتقد بأن الكلمات الحماسية تبقى في اذهان الناس اكثر من العبارات الحكيمة والعقلانية. تلك هي سيكولوجيا الجماهير، إنها نتاجُ عصفٍ غرائزي يقنعها أنها منتصرة على الدوام. انفصالٌ عن الواقع يصبح ضرورة نفسية لازمة ولا غنى عنها، خصوصا في زمن الانكسارات. كلُّ الكلمات التي نحتها آنذاك عن البطولة والامجاد، تبخرت لمجرد أن تيقن أن القرار قد اتخذ، وان الخطوط الحمر قد سقطت، مع أن كلَّ المؤشرات كانت تقول بأن المعركة خاسرة، فموازين القوى الداخلية والخارجية ليست لصالحه. التعلق بالسلطة دفعه لأن يخوض المغامرات غير المحسوبة، فدفع الجميع ثمنها، ما عداه. وما إن بُدئ الهجوم على مناطقه، حتى تهاوت ملافظ البطولة التي كان يدغدغ بها مشاعر المريدين. فلجأ الى السفارة. وكان اول من غادر، بخلاف ما ادعاه بانه سيدفن هنا ولن يرحل.

لم يأخذوا توقيعه على الورق، بل وقّع بصوته، الذي كان يحمل نبرة باردة حين دعا الجنود للتسليم عبر الاذاعة، ومن لم يصدّق من الجنود، اعتبر ذلك خدعة صوتية، فالجنرال بنظرهم مولود للانتصارات لا للهزائم. فكلّ ما كان يقال، هو من لوازم بثّ الحماسة في الجماهير التي دفعت الثمن ولا تزال.

لقد جاء من فجوة زمنية، كان فيها حال اللبنانيين عموماً، والمسيحيين خصوصا يعانون، من حربٍ طال أمدها، وأن وعود الخلاص كانت تصدق، فالناس ضاقوا ذرعاً بغياب الشرعية التي كانت مطلباً لبنانياً شاملاٍ، ليتخلصوا من حكم قوى الامر الواقع. الناس طلّاب دولة واستقرار، والمؤسسات الشرعية ليست بحاجة لتسويق، فهي في وجدان الشعب من دون منة او مقابل.

اتسمت تلك المرحلة بغياب النخب والقادة المسيحيين، فمنهم من رحل عن دنيانا، ومنهم من غادر طوعاً او كراهية، ففتح هذا الواقع ثقباً في جدار القرار، فاستغله الجنرال خير استغلال، واضعاً كل المشاكل والأزمات على الطاولة، مغيباً الأولوية القصوى المتمثلة بانتخاب رئيس، باعتباره احد الحلول للدخول بعدها في حوار وطني شامل. عمّت الفوضى الشاملة، فكان الطائف افضل الممكن، الذي حدّ من الخسائر وأوقف الحرب.

إنه زمن التواضع وزمن المسؤولية.

فلا تجنٍ في القول إن العهد قد اخفق، فلا تحقيق للعدالة (جريمة المرفأ، اغتيال لقمان سليم). حدود سائبة، قرارات اقتصادية قصيرة النظر، التخلف عن دفع الديون. ربط الإدارة بالسياسة. عدم توقيع التشكيلات القضائية. فكيف يكون مظلوماً. إنها السلطة بحلّوها ومرّها، اما التبرير فلا مكان له.

السلطة وجدت لخدمة الشعوب وتحقيق مصالحها، وعند الفشل، حقَّ للناس المحاسبة والسعي نحو الأفضل. اما مقولة أنه لا يتحمل وحده المسؤولية، فتلك مسألة أخرى.

المصدر:
نداء الوطن

خبر عاجل