كتب ميشال يونس في “المسيرة” – العدد 1733
فوق تِلالٍ فردوسيَّةٍ ترتفعُ ارتفاعَ سِفرِ الرؤيا تمتدُّ وتتواصلُ تواصلَ الأبانا والسّلام بين جردِ بلدة بتدعي ومُرتفعاتِ بلاد دير الأحمر تتوالدُ محابسُهم وتتنامى مصقولةً صَقلاً مُتماثلاً بمزودِ بيت لحم مهد الكلمة التي أرادوها أن تصير في ملء أجسادهم وقاماتهم المنذورة لسُكنى عراءِ أرضٍ كالتي كانت ملاذًا لغربةِ يوسف ومريم ليلة أشرقَ كوكبٌ من يعقوب، وكالتي كانت قورشًا لجبلِ خيمة راهبٍ أعوامَ أشرقَ كوكبٌ من مارون. إنَّهم الإخوةُ المبتدئون المُنتمون إلى الرهبانيَّةِ المارونيَّةِ الخامسةِ المؤسَّسةِ حديثًا كالآيةِ والأعجوبةِ، رهبانيَّةِ «رهبان بيت مارون» خدّام أرزة لبنان!
«رهبان بيت مارون» هويَّةٌ وانتماء
خمسةُ رهبانٍ جذريين خرجوا من الرهبانيَّةِ من دون أن يخرجوا عليها، خرجوا صعودًا تَصاعُدَ السِّراجِ المنارةِ إلى أعلى مكيالٍ يكشحُ الظُّلماتِ عن العيونِ السّاعيةِ نحو النِّداء الأقدسِ: «أنا هو نورُ العالم». وخرجوا عُمقًا عُمقَ شِباكِ الصيّادين السّاحبين شِباكهم مُثقلةً بصيدِ النفوس والصيّادين الماهرين بسحبِ مركبِ الأمم حتّى الوصولِ إلى ميناء الخلاص!
خَرجوا من رهبانيَّتِهم الأم أبناءَ بَرَرةً أوفياء لكلِّ ما غذَّى نفوسهم من خمير آبائها القديسين منذُ الأب العام عبدالله قراعلي، وخرجوا مُمتنِّين لها على جميعِ ما بذلته في سبيلهم من يوم طالبيَّتهم وابتدائهم ونذورهم الأولى فيها إلى يوم نذورهم الإحتفاليّةِ المؤبَّدة، ثمَّ سيامتهم الكهنوتيُةِ.
خرجوا من رهبانيَّتهم الأم يتملَّكهم جوعٌ عُلويٌ لا يَسدُّهُ إلاَّ ذاتُ الخبزِ الذي اقتات به أبوهم وأخوهم شربل مخلوف البقاعكفريِّ.. خرجوا من رهبانيَّتهم خائفين على كنوزِ جهالةٍ أكرمَهُم الله بها ليُخزيَ بها حُكماءَ هذا الدَّهر وعُلماءَ هذا الزّمان فهرعوا إلى أبيهم وأخيهم نعمة الله الحرديني معلّم تعريم الكُتُبِ وتجليدها ومعلّم مدرسة كفيفان، لينالوا من يديه شهادة «الشاطر يخلِّص نفسو».. وخرجوا لائذين بأخيهم فلاح الطوباويين وطوباوي الفلاحين إسطفان إبن النعمة اللحفدي، خروجَ الزّارعِ الذي خرج ليزرعَ حقول الربِّ بسنابل الأفخارستيا وأغراس الفضائل الإلهية، فلا تُصابُ أجسادُهم بداء الراحةِ والرفاهيةِ والإسترخاء.. وتهيَّبَ رجالُ قورش الجديدة مِن أن تنهزمَ أكتافُهم طوالَ مسيرةِ دروب الصّلبانِ، فسألوا أختهم رفقا الحملاويّة هل حَمَّلَ حبيبُها المصلوبُ ضميرَه عينها المقلوعة بالمِخرَز كما حمَّلَ ضميرَ أباه يديهِ المغروزتين بالمسامير؟ وسألوا المُفَكَّكةَ العِّظامِ كيف وصلت إلى عيد خميس القربان زحفًا على جسدِها المُخلَّع؟!!
الأب الياس مارون غاريوس القورشيِّ همّامُهم ومُلهِمُهم أرسلته في ما مضى رهبانيَّتُه اللبنانيّةُ المارونيَّةُ إلى أنطش السيّدة في مدينة بعلبك ليتولّى رعاية «القطيع الصَّغير» في بلاد البقاع المبتدئةِ الحدود الشهاديَّةِ من دير مار مارون العاصي دير الـ350 مذبوحًا من الوريدِ إلى الورديَّةِ.. فكادَ رأسُ الياس الغيور ولعديد المرّاتِ أن يلقى مصير رأس مِثالِه وشفيع صوتِه الصّارخِ يوحنا المعمدان قيدوم نهر الميرون وماء المعمودية بالماء والروح الذي لم تُبقِ له جرأتُه على ملوك الفحشاء صديقًا إلاَّ السَّيفَ الذي قطع عنقَه من دون أن ينالَ من دويٍّ حنجرتِه.. وسمعَ المُرشَّح الدائم للإستشهاد ذات تحذير ملاك الرب ليوسف: «قم خذ الصبي وأهرب به إلى مصر».. أو مسقط رأسكَ قرطبا أو إلى أيِّ ديرٍ آمنٍ، فلم يرِفَّ له جَفنُ خوفٍ ورِعدةٍ حتى وصل التحذيرُ المُريعُ إلى رهبانيَّتِه فصمَّمت على سحبِه من الأخطار المُهدِّدة حياتَه، لكنَّ الراهبَ الجرديَّ الجُبيليَّ حذى حذوَ أخيه الجردِّي الجُبَيليِّ الراهب الأخ اسكندر الترتجاني الذي رفض أمر الطاعة للإنسحاب من دير مار مارون عنايا يوم تعرَّض لهجوم البرابرة ودافع عن ديره حتى الموت والإستشهاد يوم 23 أيول 1842، فاستلهم الرب بولس رسول الأمم جوابًا يُجيبُ به رهبانيَّتَه الخائفةَ على حياتِه فحظي بجوابينِ حاسمين:
أ- «الويلُ لي إن لم أُبشِّر»
ب- «حياتي هي المسيح والموتُ رِبحٌ لي»!!
لأنَّ الروحَ يهُبُّ حيثما يشاء وكيفما يشاء ويختارُ مَن يشاء، أصابت قُرعةُ اختياره أربعةَ رهبانٍ آباءَ من الرهبانيةِ اللبنانيَّةِ المارونيّةِ تملَّكَت نفوسَهم السِّيرةُ القورشيَّةُ ومسيرتها، فبهرَت حياتَهم الرهبانية حياة مارون الإلهي القورشي ونسكيات إسحق القورشي ويعقوب القورشيّ وتاودوريطس القورشي المعروفين بـ»أصفياء الله»، فالتحق الآباء مارون ساسين وبيار مطر وأنطونيوس الغصين وجان أيوب بهمّامِهم ومُلهِمهم الأب الياس مارون غاريوس في مركز قيادتِه النسكية وسط بلدة مجدلون أطراف البقاع الشمالي لجهة زحلة يؤسِّسون ديرهم الأول داخل بناءٍ قدّمه لهم زحلاويٌ كريم النفس والروح تقدمةً مجانيَّةً لكنها موقَّتة، فانصرفوا خمستُهم مُتَّحدين إتحاد علامة الصليب في أصابع اليد الخمسةِ منصرفين إلى إحياء ملكوتهم الأرضي من عَدَمِ ‘متلاك أيِّ فلسٍ غير فلس الأرملة، فحملوا الحجارة على أكتافهم وغربلوا الرّملَ وصقلوا الخشبَ ثم افتتحوا كنيسةً بدائيَّةً جدرانُها وسقفُها من لفائفِ النَّايلون»!
وكانت للروح كَلِمةُ الفَصلِ عند مراجع الكنيسة الجامعة الرسولية بدءًا من الحَبرِ الأعظم، فنالوا موافقةً بابويَّةً خلال زمنٍ قياسيٍّ على قانونية رهبانيَّتهم وتصديقًا لقوانينها الأشبه بالمكان والزمان بقانون نسّاك جبل قورش الرافعين سقوفًا ملكوتيَّةً مِن شَعرِ خيامِهم وشِعرِ تسابيحهم وترانيمهم ومزاميرهم!
ولأنَّ ديرهم الأم وسط مجدلون هو موقتٌ، كانت عين الربِّ ساهرةً على جميع تفاصيل عَيشهم وسكناهم، فحصلوا على عقار كبير المساحة فوق تلال بلدة بتدعي تمَّ شراؤه مِن أحد أبناء عائلة رحمة الميامين الذي اختزلَ لهم كثيرًا من سِعرهِ الحقيقي بشعورٍ أنَّ أملاكَه ستُصبحُ جزءًا من أملاك السّماء. ثم توالت عليهم تقادم أراضٍ مجّانيُةٍ من كِرامِ بلاد دير الأحمر المُستجيبين لصوت إبن الله :»أقيموا ملكوت الرب كما في قلوبكم كذلك في أراضيكم»!
مساء عيد إنتقال الأم العذراء بنفسها وجسدها 15 آب 2019، إنتقلَ آلافٌ وآلافٌ من جميع مناطق لبنان ليشهدوا مع الله وأمه الطوباوية مريم ومور مارون وراعي الرهبانية النّاشئة أسقف بعلبك ودير الأحمر المطران حنا رحمة على نذور رهبان بيت مارون خدّام أرزة لبنان نذور الطاعة والعفة والفقر والكلمة، خلال ليلةٍ سماويَّةٍ تشتهي ملائكة السّماء حضورها !!
حَولَ مُعلِّمِ ابتدائهم إبن مزرعة بيت صلَيبي الديرانيةِ الأب أنطونيوس الغصين القورشيِّ يتكوكبُ شبّانٌ مُبتدئون بأعمارِ الشمسِ حينَ تبزغُ والقَمَرُ حين يبلغ سنَّ البَدرِ والأقحوانُ الموهوبُ شذاهُ للمذابح. شبّانٌ نالوا أعلى المراتب العلميَّةِ، كان في متناول أياديهم مستقبلٌ واعدٌ بالنجاح والعملِ والمال إلى أن أدركهم المهماز الذي لا يُرفَس، فتركوا لأجلِ يسوع البريّةِ كلَّ شيء وأتوا إلى الجبلِ الذي ليس فيه أي شيء إلاَّ تطويبات الحزانى بالروح!
كثرٌ من الطامرين رؤوسهم في رمول الدنيا المتحركة يسألون ويتعجّبون وينذهلون: أيُّ دافعٍ يدفع هؤلاء الفتيان المُشرقي الوجوه الممشوقي القامات للتخلّي الجنوني عن نهاراتِ مكاتب وشركات رجال الأعمال، وعن ليالي الأنسِ في مراتعِ السَّهرِ والمراقص والجميلات ليأتوا أرضًا يستعيدون فيها معجزاتِ وإعجازات أولئكَ الذين «سكنوا المغاور والكهوف وشقوق الأرض ومطاوي الصخور والأشيار وكان العالم لا يستحقُّهم»؟!
شبانٌ ممتلئون بكامل حيوية الشباب يبنون محابسهم بأيديهم يعتزلون بها اعتزالاً بطوليًا لا يخترقُه حضورٌ بَشَريٌّ إلاَّ مُحيّا يسوع إبن الإنسان والبَشَر، ولا تطأه أقدامُ أنثى لأجل أن تمتلئ عيون عرسان المحابس من كامل جمالات ومحاسن وجه إبنة يواكيم وحنة خطيبةِ يوسف النجّار عروسة الروح القدس، يناجونها صبحًا ظهرًا مساءً وليلاً :»يا أم الله يا حنونة».
يوم عيد أبيهم وشفيعهم مارون الألهي 9 شباط 2022 نذرَ الرعيل الأول من مُبتدئي جبل المحابس نذور الطاعة والعفة والفقر والكلمة، وتوشّحوا بأساكيمهم الملائكية القورشية على يد أبِ وراعي ومرشدِ رهبانية «رهبان بيت مارون» المطران حنا رحمة سليل عيناتا جبل أرز الرب ووادي النسور، عيناتا الشهداء الرحميين الواهبين أرواحهم لكل مناطق لبنان المولود ما قبل زمن نشيد الأناشيد. هذا الأسقف الباسل الذي لا يَدع رعيتَه تُضرَبُ من أي ضاربٍ مهما كان، قد رافق «رهبان بيت مارون» منذُ ما قبلَ نيلهم قانونية كيانهم الرهبانيِّ ويبقى يرافقهم بأبوّةٍ وأخوّةٍ رهبانيّةٍ كانت تجمعهم سويةً رهبانًا بالرهبانية اللبنانية المارونية!
داخل حصون ملكوتهم المُشيَّدِ المباني النسكية والمعاني القورشية في أعالي جردٍ يرتفع بين 1600 ـ 1700 متر عن بحرِ المراكبِ المُشلَّعةِ الشِّراع التّائهة الوِجهةِ يستبسلون في مُنازلةِ ومُقارعةِ ومواجهة المُجرِّب الشرّير الذي يطوف العالم بألفِ وجهٍ وزيٍّ ولقبٍ ومَنصِبٍ ومَقام، يتمرَّسون على نذرِ رهبانيتهم الرابع نذر الكلمةِ، تمرُّس يوحنا الحبيب والتلميذ الطاهر وإبداعه بنصِّ مُقدِّمة تدوين بشارتِه :»في البدءِ كان الكلمة، والكلمةُ كان عندَ الله، وكان الكلمةُ الله .هو في البدءِ كان عند الله. به كان كلُّ شيءٍ، وبغيره ما كانَ شيءٌ مما كان .فيه كانت الحياةُ، وحياتُه كانت نور النّاس!!!
مَن الخادم الأول؟!
رهبان رهبانيّة بيت مارون خدّام أرزة لبنان يتمايزون عن إخوتِهم أبناء الرهبانيّات المارونية بثلاثِ ميزاتٍ تأسيسيّةٍ ونذرويَّةٍ وسلطويَّةٍ:
أ – رهبانياتُنا بتسمياتِها اللبنانية والمريميةِ والأنطونيّةِ يعودُ انتماؤها الآبائيِّ منذُ تأسيسها لأبوَّةِ وشفاعة الأنبا أنطونيوس الصَّعيديِّ أبي الرهبان وكوكبِ البريَّةِ على اسمِه وميراثِه ينذرون للرب وليلة عيده 17 كانون الثاني يُجدِّدونَ النذور.
رهبان بيت مارون خدّام أرزة لبنان المُتولِّهون المُتمرِّسون بشذى السِّيرةِ القورشيَّةِ يرتبطون جذريًا وجزوريًا وبنويًا بغرسةِ مارون الإلهي فوق ذُرى قورش مهندسين أديارهم ومحابسهم على هندسةِ خيمتِه المُرتفعةِ عن دنيا المُلكيّات نحو كنوز الملكوتيّات يُجدِّدون نذورهم ليلة عيد أبيهم «السيِّد الصغير” 9 شباط، واضعين كامل خدمتهم وجهادهم بتصرُّفِ أرزة لبنان المُكنّاةِ بمريم أم الله وأرزة لبنان الموصوفةِ بأرز الرب !
ب – رهبانيّاتُنا المارونيَّةُ كمُعظم رهبانياتِ الكنيسة الجامعة ترفعُ لسيّدِ الوزنات نذور الطاعة والعفَّةِ والفَقرِ، أمّا رهبان بيت مارون فقد توَفَّقوا باكتشاف النَّذرِ الرّابعِ نَذرِ الكلمة. والكلمة صارَ مِلءَ الزّمانِ فيهم والمكان، والكلمةُ صارَ مَنشودَ دروبهم ونشيدها: «ما أجملَ أقدام المُبشِّرين»، سائرين قُدُمًا إلى مُناشدةِ المُعلِّمِ لهم: «إذهبوا بشِّروا جميعَ الأممِ باسم الآب والإبن والروح القدس»، يحملونَها كشعاعِ الرَّجاء إلى مُنكسري القلوب مَن تشلَّعت آمالُهم وقُهِرَت عِزَّةُ نفوسِهم. ومُبشِّرو بيت مارون يَعِفّون عن ارتياد منتدياتِ حِوار الأديان بمُماحكاتِها العقيمةِ ومُسايراتِها المداهنةِ، إذ يعتبرونها ملجأً للهاربين من بذلِ أثمان الشهادةِ لسيِّد الحياة والأحياء القائم الدائم من الموت لأجلِ أن يتولَّى بذاتِه حوار الروابط الإنسانية بين المدعوين للجلوس في حضن إبراهيم!
ج – ورهبانيّاتُنا كمعظم رهبانيات الكنيسة الرسولية تتراتَبُ سلطويًا من رُتبةِ الرئاسة العامة ثم المُدبِّرين ثمَّ رؤساء الأديار والمراكز، أمّا رهبان رهبانية بيت مارون خدّام أرزة لبنان فقد استلهموا لمراتبهم الرئاسيَّةِ قانون خميس الغُسلِ السّابقِ ليلة الأسرار والجمعة العظيمة حيثُ الربُّ المُعلِّمُ ينحني على أرجُلِ تلاميذه بالغَسلِ والقُبَلِ والتَّوصيّةِ: «ليكن كبيركم خادمًا لكم». وأمَّا منصبُ الرئيسِ العام الذي لطالما تسبَّبَ للجوهرِ الرهبانيٍّ بكثيرٍ من الويلات والمآسي والنِّزاعاتِ والإنشقاقات.. فقد استبدلَه زهّادُ بيت مارون بمنصب الخادم الأول!!!
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]