شهادة عمر

حجم الخط

من كتاب شارل مالك “به كان كل شيء” – “المسيرة” – العدد 1733

أفهم شهادة عمر بصفتها عصاة حياة. إذا عصرتُ حياتي حتى الآن خرجت بالعقائد الأساسية التالية. هذه، إذاً، هي فلسفتي الأخيرة الحالية في كل شيء، أعرضها بشكل هيكل مقتضب جدًا.

أؤمن بأن العلم قدرة إنسانية عظيمة، وبأنه يكشف لنا كثيرًا من أسرار الموجودات. بالرياضيات، وبالمشاهدة المنظمة الحسيّة، وبالتجارب في المختبرات، وبالدخول في التراث العلمي النظري الحيّ المتراكم، في دور العلم والصناعات في البلدان المتقدمة، نستطيع أن نضبط كثيرًا من قوى الطبيعة المخزونة ونحوّلها لخدمة الإنسان. وأما الشعوب التي لا تأخذ بالعلم ولا تتقبّل الثقافة العلمية، فستنقرض أو ستبقى مستعبدة. وكل تعارض حقيقي بين إستنتاجات العلم وبين الخرافات والخزعبلات والأوهام الشائعة يجب أن يؤدي إلى ترك هذه الخرافات والخزعبلات أو إلى تعديلها والأخذ بناصية العلم.

أؤمن بالعقل، أي بأن العقل السليم المدرّب يستطيع فهم الأشياء واكتناهها. والعلم ذاته قدرة عقلية. أما العقل الباحث فيتعجب من كل شيء ويتساءل عن كل شيء، من أرفع الموجودات، الذي هو الله، إلى أحقرها. لا يجوز بأي حال من الأحوال أن توضع أي حواجز في سبيل البحث العقلي المسؤول عن أي موضوع إطلاقا. والشعوب والثقافات التي تكبّل العقل أو تحرّم عليه طرق أي موضوع بصورة مسؤولة هي أيضًا ستنقرض أو تُستعبد أو تبقى مستعبدة. غير أن العقل إذا تكبّر واعتبر نفسه كل شيء، ينقلب إلى قدرة شيطانية. من خصائص العقل السليم أن يتواضع ويعرف حدّه ويقف عنده. والعقل لا ينضج في الفراغ ولا في الوحدة والإبتعاد عن العقلاء، بل في الدخول الصميمي في التراث العقلي المتراكم لثلاثة آلاف سنة. لا يمكن أن تتعجب من أي شيء، من الله إلى حبة الرمل على شاطئ البحر، وتتوصل إلى نتيجة بشأن هذا الشيء تحترمها باريس وأوكسفورد وبوسطن وموسكو، إلا إذا انغمست انغماسًا كليًا في التراث العقلي المتراكم، المنصبّ في باريس وأوكسفورد وبوسطن وموسكو، وصرت جزءًا عضويًا منه. للعقل إذاً قواعده ومراكزه وتراثه، ولا يمكن أن يرتجل أي شيء، أو ينسجه من وحي خياله. باللصوق فقط بهذه المراكز، وبالإنطباخ من الداخل بهذه القواعد والتراثات، يستطيع العقل أن يصل إلى شيء أكيد محترم.

أؤمن بأن هذا الشيء الأكيد الذي يتوصل إليه العقل المنغمس بالتراث الحيّ المتراكم هو الحقيقة. أؤمن، إذاً، بأن الحقيقة موجودة، وليست ضائعة، كما يظن بعضهم، وبأن العقل يستطيع أن يفتش عنها ويجدها. إن الحقيقة بالنسبة الى أي شي، من الله الى حبّة الرمل، مرورًا بالحيوان والإنسان والمجتمع، ضائعة فقط لدى مَن لم يجدها، لكنها موجودة بالفعل لدى مّن وجدها، وإذا لم يجدها بعد أي إنسان، فهي بالفعل موجودة بحدّ ذاتها، وموجودة في ذهن الله. إن التشديد على وجود الحقيقة الثابتة في أي موضوع، وعلى أن العقل يستطيع النفاذ إليها، من أهم ما أؤمن به.

أؤمن بأن الإنسان هو أرفع الموجودات المنظورة وبأنه مسلَّط على كل موجود منظور آخر. ليس أرفع شيء في الإنسان جسده ولا انتماؤه العرقي أو الاجتماعي أو الطبقي أو الثقافي، مع أن هذه جميعًا جزء لا يتجزأ منه، بل عقله وروحه. أُعرِّف بعقلي وروحي وموقفي وتصرفي أكثر بكثير مما أُعرِّف بجسدي أو بانتمائي إلى هذا العرق أو ذلك، أو إلى هذا المجتمع أو ذاك، أو إلى هذه الطبقة أو تلك، أو إلى هذه الثقافة أو تلك. وللإنسان كرامته الأصيلة التي تقضي بأن يتمتع بحقوق وحريات طبيعية لا يجوز لمجتمعه أو حکومته أن ينزعاها منه. هذه الحقوق والحريات هي ما تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

أؤمن بأن الإنسان حرّ، وبالتالي مسؤول، حرّ في أن ينهض بنفسه أو يتقاعس، حرّ في أن ينشد المعرفة والنور أو يغطّ في الجهالة والظلام، حرّ، عندما يعرف الحقيقة، في أن يتمرّد عليها، حرّ في أن ينتحر. وفي كل تصرف حرّ يكون الإنسان مسؤولاً عن قراره وعن ذيول قراره، ولا يستطيع بحال من الأحوال أن ينحي باللائمة إلى غيره. غير أن أرفع حرية هي العبودية للحق.

كن للحق عبدًا           فعبدُ الحق حرّ

وبما أن الله هو الحق، فأسمى تسمية يُسمّى بها الإنسان هي عبد الله.

أؤمن بأن أسمى علاقة طبيعية بين البشر هي علاقة الأدب والإحترام. إن الاحترام يعني أنّي أساوي تمامًا بيني وبين غيري، أحترم غيري لأني أحترم نفسي وأريد غيري أن يحترمني. هذا ما عناه يسوع بالآية الذهبية: كما تريدون أن يفعل الناس بكم، إفعلوا أنتم أيضا بهم هكذا. الإحترام يعني أنّي أحترم شخصًا غيري وعقله وضميره وحريته في التقرير والإختيار، ولا أسمح لنفسي بأن أضغط عليه في شيء أو أعرّضه لأي إرهاب أو إكراه. الإحترام يعني أنّي أصغي بقدر ما أتكلم، وأستفيد بقدر ما أفيد، وأعتبر بقدر ما أتوقع الإعتبار، وأرجو لغيري الغبطة والبقاء بقدر ما أرجوهما لنفسي، وألجأ إلى الإقناع لا إلى العنف. عندما تعمّ شعبًا أو حضارة ما بلية عدم إحترام الوالدين، أو الشيوخ، أو الحكماء، أو القانون، أو ذوي السلطة، قل على ذلك الشعب أو تلك الحضارة السلام.

أؤمن بأن التاريخ شيء حقيقي، وبأن قيمه وخبراته لم تمت، بل هي منصبّة في الحاضر بواسطة العادات والأعراف الحيّة، وبواسطة الأدب والآثار والذكريات. الذي يُقطِّع التاريخ يُفقر الحياة. أما الوجود والقوة والغنى ففي التاريخ المتواصل المتراكم الحيّ. لذلك لا يجوز بدء التاريخ بنقطة تقرَّر تعسفيًا. نسطيع ـ بل يجب ـ أن نوحّد أنفسنا بجميع الحقب، ونجد فيها جميعًا قيمًا إنسانية خالدة.

أؤمن بأن السياسة شيء ضروري وشريف. لا ينتظم المجتمع البشري، ولا يشعر بالأمان، ولا يستطيع أن يخطط للمستقبل، إلا في ظل القانون وبحماية السلطة التي ترعى تطبيق القانون. وإذاً، الدولة، الحكومة، السلطة، القانون، الجيش، قوى الأمن، كل هذه ضرورة إنسانية. والنظام السياسي الذي أؤمن به، أو، على الأقل، الذي أريده للبنان، هو النظام الديمقراطي الدستوري الحرّ، حيث الشعب هو في النهاية مصدر السلطات، بواسطة انتخابات حرّة. لذلك لا أؤمن، للبنان على الأقل، بحزب واحد أو بفئة واحدة تحتكر مقاليد الحكم. في ظل النظام الحرّ لا يُضطهد المواطن بسبب عقيدته الخاصة، ولا يُمنع عن التعبير عنها في نطاق القانون، ولا تُقيَّد الصحافة، ولا تُحصر التربية في نطاق موجّه ضيّق، ولا يُضيّق أو يتجسس على الإجتماعات الخاصة. في ظل النظام الحرّ، يُحترَم الإنسان في شخصه وعقيدته وحريته وتعبيره ونشاطه الفكري والإجتماعي والاقتصادي .

أؤمن بلبنان بلدًا حرًا سيدًا مستقلاً. لا أريد لمؤسساته الحرّة الأساسية أن تضعف أو تزول. أؤمن بأن لبنان يعني رسالة إنسانية فذّة لنفسه وللعالم العربي وللشرق الأوسط وللعالم. أعرف تمامًا، كما يعرف غيري، فساده واهتراءه وتفسّخه وانحطاطه وفوضاه، وأقرف قرفاً تامًا منها جميعًا. لكني أحب لبنان وأؤمن به وأعرف إمكاناته وأثق بمستقبله. أؤمن بتعاونه الوثيق والعالم العربي الذي ينتمي إليه، لكني لا أريد أن يذوب، أو يُذوَّب، بقيمه ومؤسساته الحرة الأساسية، في هذا العالم. أؤمن بضرورة إشاعة العدالة الإجتماعية فيه الى أقصى حدّ، لكني لا أؤمن بعبادة العدالة الإجتماعية بصفتها إلهًا، ولا بالتضحية بالحرية الشخصية الكيانية في سبيلها. أقدّر الدور الطليعي الذي أدّاه الموارنة في تاريخ لبنان وتكوينه، وأشدد على المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتقهم اليوم، كما أني أؤمن بأهمية الكنيسة المارونية، وعلى الأخص بأهمية كرسي بكركي، في التدبير المسيحي العام، في لبنان وفي المشرق. أؤمن بعدم تقطيع تاريخ لبنان، وبضرورة تواصلية تراثه العريق الذي فعل وتفاعل فيه وحضارة الغرب والبحر الأبيض المتوسط لستة آلاف سنة. أؤمن بأن مسيحييه ومسلميه يجب أن يكونوا أحرارًا فيه كأي مسيحيين ومسلمين في أي بلد آخر. أؤمن بأن يبقى الإنسان الشخص محترمًا فيه بحقوقه وحرياته. أؤمن بضرورة انفتاحه على الحق والحقيقة حيث وُجدا. وأخيرًا أطمح إلى أن تصبح مؤسسات لبنان الروحية والفكرية من أرقى المؤسسات وأشدها خصبًا وأصالة في العالم.

أؤمن بأن الصداقة أهم شيء على الأرض. إن احترام الصديق صديقه بشخصه وحريته واستقلاله، الشفافية التامة بین الصديق والصديق، إرتياح الصديق للصديق، الثقة المتبادلة، البذل بلا حساب، الخبرة الطاهرة المشتركة، العشرة المرحة، النقاش الحرّ في أسمى الموضوعات، التطلّع إلى اللقاء، الكشف الصادق عن الصدر، الإعتذار العفوي عن أي إساءة، عدم الحسد أو التحاسد في أي شيء، الفرح الخالص لتوفيق الصديق وتقدمه وسعادته، المشاركة الصادقة في المحن والتجارب والأفراح والأتراح، هذه وغيرها الكثير هي نِعم الصداقة على الأرض.

 

(من كتاب «به كان كل شيء»)

مرجع:

• أُلقيت في كنيسة أنطلياس في فصل الصوم بدعوة

من «حركة التجدد»، يوم السبت 6 نيسان 1974. ونُشرت لاحقاً  في مجلة الرعية الجديدة، العدد 133،

كانون الثاني 1975، ص 23 ـ 29.

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل