سبق وحذّرنا في أكثر من مقال ممّا قد تقدم عليه سلطة إيران في لبنان. لا سيّما بعدما جعلت من اللبنانيّين متاريس تتلطّى بهم وبمصالحهم ومصالح وطنهم الخاصّة لتحقّق مصلحتها. وما يؤلم في ذلك ليس السياسة الإيرانيّة بل مَن تعامَل من اللبنانيين أنفسهم ليحقّقوا لهذا البلد مصلحته في الساحة الدوليّة على حساب المصلحة اللبنانيّة. فما هي خريطة الطريق التي يجب اتّباعها لتحرير لبنان من سلطة إيران؟ وهل يستطيع اللبنانيّون اليوم استعادة ما تمّ التنازل عنه سياديًّا وبرّيًّا وبحريًّا؟
يختلف اللبنانيون في توصيف الدّور الإيراني في لبنان. منهم مَن يعتبره حليفًا مساعِدًا ومنهم مَن يصنّفه في خانة الاحتلال. لكن الاعتراض على التوصيف الأخير يكمن في مفهوم الاحتلال بحدّ ذاته. ففريق سلطة إيران في لبنان تعتبر الاحتلال فقط بالوجود العسكري لدولة مصنّفة عدوّة بحسب الدّستور. وبالطبع لا خلاف في هذا التحديد. لكن كما دأبت هذه السلطة دائماً بالانقلاب على المفاهيم والمصطلحات العامّة، هي نجحت بتعليل تحديدها هذا.
إلا أنّ الوجود الإيراني في لبنان قد اتّخذ طابعًا مغايرًا عن وجود الاحتلالات في أيّ دولة من دول العالم. وذلك انطلاقًا من مقدمة الدّستور الايراني التي تتحدّث عن عقيدة الجيش الايراني كالآتي:
“فـي مجال بناء وتجهيز القوات المسلحة للبلاد، يتركّز الاهتمام على جعل الإيمان والعقيدة أساسًا وقاعدة لذلك، وهكذا يُصار إلى جعل بنية جيش الجمهورية الإسلامية وقوات حرس الثورة على أساس الهدف المذكور، ولا تلتزم هذه القوات المسلحة بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل أيضاً أعباء رسالتها الإلهية، وهي الجهاد فـي سبيل الله، والجهاد من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي فـي العالم .”ويستشهد واضعو هذه المقدّمة بسورة الأنفال، وبالآية رقم 60 تحديدًا، من القرآن الكريم لتعليل خططهم المستقبليّة التي تقول: ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله، وعدوكم، وآخرين من دونهم”.
هذا المبدأ العقائدي الذي تمّ تأسيس منظمة حزب الله على أساسه كذراع عسكري لتحمل أعباء الرسالة الإلهيّة بحسب العقيدة الصفويّة، ولأن تجاهد في سبيل الله توصّلاً لبسط حاكميّة القانون الإلهي في لبنان. وهذا ما منعها من أن تكون حزبًا سياسيًّا في لبنان وتتحوّل إلى احتلال عقائديّ تماشيًّا مع مبدئها العقائدي، حتى تنجح بفرضه في كلّ لبنان.
التحرير العقائدي هو المطلوب في المرحلة القادمة. وهذه مسؤوليّة اللبنانيّين كلّهم من دون استثناء، كلّ من الموقع الذي يمثّله. لا سيّما مسؤوليّة الانتلّيجنسيا اللبنانيّة المؤمنة بالفكر الكياني الذي شكّل أسس الكيانيّة اللبنانيّة التي تكوّن لبنان على أساسها. من هنا بالذات بدأ الاحتلال الإيراني الصّفوي للمجتمع الشيعي اللبناني. وما محاولة اختراقه المجتمعات اللبنانية الأخرى عبر ما سمّاه سرايا المقاومة إلا شكلاً من أشكال هذا الاحتلال العقائدي. وهو أخطر بكثير من أيّ احتلال عسكري.
فأيّ احتلال عسكري يواجَه بالمقاومة المسلّحة، لكن الاحتلال العقائدي والفكري والمجتمعي والسياسي لا يواجَه إلا بالفكر والسياسة والعقيدة الوطنيّة الكيانيّة. هذه هي خارطة التحرير من سلطة إيران. ولا يمكن أن ننقل المجتمع اللبناني الذي قبل بهذا الواقع إمّا ترغيبًا وإمّا ترهيبًا، إلى حالة من التحرّر إلا بنقله فكريًّا وسياسيًّا. وهذه المسيرة بدأت في 14 آذار 2005 واستُكمِلَت في العام 2018 لكن لم تؤتِ بالثمار المطلوبة إلا في 17 تشرين 2019 وفي 15 أيّار 2022 تكلّلت بنجاح جزئي كبير، لكن حتّى الساعة لم يتحقّق التحرّر المطلق. وقد لا يتحقّق، حيث من الممكن أن تبقى نواة صلبة عقائديًّا لكن سيصبح تأثيرها محدودًا في المجتمع الشيعي.
ولن يستطيع اللبنانيّون استعادة سيادتهم وما تمّ التنازل عنه في الميادين كافّة ما لم ينجحوا في تحقيق التحرّر الفكري لكلّ أترابِهِم. وموضوع رئاسة الجمهوريّة هو خطوة استكماليّة في مسار التحرّر الذي أشرنا إليه. وإن نجحت سلطة إيران في إجهاض هذا المسار مرّة جديدةً، لا يعني ذلك أنّ الاستسلام والرّضوخ هو الوحيد المتاح. أو حتّى بأدنى الشروط أن تكون المهادنة والاحتواء هي البديل للمواجهة. بالطبع ذلك مرفوض. لأنّه لحظة التخلّي عن المواجهة يتثبّت هذا الاحتلال العقائدي في العقيدة الدّستوريّة للدولة اللبنانيّة، كما نجحت الثورة الصفويّة في إيران بتثبيته في مقدّمة دستورها. وهنا الخطورة الكبرى.
في المحصّلة، دائمًا الفرص متاحة، وطالما الإرادات والنيات متوفّرة هنالك دائمًا سبل ووسائل لتنفيذها. لا ييأسنَّ أحد. فاليأس ليس من شيمنا. الاستمرار في المواجهة مهما كانت الظروف هو السبيل للإستقرار على الاستمرار. لأنّنا قياميّون وإيماننا بقضيّتنا اللبنانيّة من إيماننا بالوجود الحقيقي وبالمجرّد المطلق. سيكون لنا رئيس، مهما طالت فترة الشغور. ولن يمسّ أحد بالدستور الذي يحفظ الصيغة إلّا من باب التطوير والتحديث لأنّنا حرّاس ونحن ساهرون ومصابيحنا مشتعلة.